ينتقد الباحث السوداني عبدالوهاب الأفندي الحركة الإسلامية الجديدة ويعتبرها مثلها مثل «الأحزاب والمنظمات التي نشأت في القطاع الحديث، مصابة بمرض التعالي الثقافي على المجتمع السوداني الذي ظلت تحتقر أفراده لأن غالبيتهم من الأميين لا يفهمون في الحداثة وأمورها». وطالب الأفندي بإعادة تأسيس «حركة إسلامية جديدة، تبنى على إنجازات ما سبقها، وتجمع الصف الإسلامي السوداني، وتتحرك في إطار يتيح أيضا الحرية للآخرين للعمل». (الثورة والإصلاح السياسي في السودان، إصدار منتدى ابن رشد، لندن 1995. صفحة 234).
إذا كان هذا التحليل صحيحا لماذا إذا فعل حسن الترابي ما فعله على رغم عمله بخصوصيات السودان وتركيبته القبلية والطائفية والريفية والمناطقية وأخيرا تحكم العلاقات التقليدية بالسياسة العامة للدولة وقيادتها للقوى الحديثة والمعاصرة؟
مراجعة وثائق المؤتمر التأسيسي للجبهة الإسلامية في 1985 توضح الصورة لأن الوثائق، تتضمن ما يكفي لفهم النظرية السياسية في فكر الترابي وتركز انتباهه على موضوعة الدولة وقيادتها للتحولات في السودان وموقع الجيش المميز والخاص كقوة وطنية حديثة تمثل مختلف المناطق والطوائف والقبائل وهو كما يبدو قوة مشتركة لا خلاف سياسيا عليه بين السودانيين. فحجم السودان الجغرافي وقلة سكانه جعلا من جيش الدولة قوة التوحيد السياسية الأولى وفي الآن فرض عليها علاقات فيدرالية لا مركزية (نظام الولايات) لضبط التنوع السكاني والسيطرة عليه مركزيا. (دستور الجبهة الإسلامية القومية وبيان مؤتمرها الختامي (19 - 21 شعبان 1405 هجرية)، الدار وتاريخ النشر غير محددين).
ماذا تقول وثائق الجبهة وخطابات أمينها العام؟ يحدد الترابي في كلمة الافتتاح أسباب قيام «الجبهة الإسلامية القومية» فيعلن أنه جاء «ليوافي تهيؤ البلاد، لتحول جديد في حياتها العامة، وقد نشأت دواعي ذلك التغيير، عن تطورات في الوعي الديني والسياسي، أوهت أصول العصبيات التاريخية القديمة، وحلت عرى الولاءات التقليدية المطلقة، وغادرت الشعب نهبا لشتات مبعثر من النعرات المحلية، والصراعات الذاتية والفئوية، وعرضه لفتنة ركام مربك، من الدعوات الزائفة، والشعارات الدخيلة...». ويشرح في الخطاب الظروف السياسية والأحوال الاقتصادية الانتقالية ويتعرض للوحدة الوطنية وقضية الجنوب والسياسة الخارجية وقضية الشريعة الإسلامية، ويعطي أهمية خاصة للعاصمة القومية (الخرطوم) التي تنشأ فيها المبادرات في «النهضة الحضرية، من العلم والرأي، أو الصناعة والعمران، أو سائر أنماط الحياة». وأخيرا وهذا هو الأهم يشدد على الأسلوب السلمي ويدعو إلى أن «تتوافق كل الأحزاب، على مبادئ دنيا، تضبط العلاقات، وتبسط الخلاف، وذلك بالتزام الديمقراطية والشورى والعلن في البناء والأداء الحزبي والسياسي وفي التنظيم الدستوري والحكومي». (خطاب الأمين العام، ص3 و4 و14).
من الواضح أن الترابي كان يراهن على الانتخابات الديمقراطية التي تم الاتفاق على عقد دورها بعد سنة، كذلك يلاحظ أن الأسلوب الانقلابي ليس واردا إلا أن جذوره الايديولوجية أخذت بالظهور في تحليل بنية المجتمع السياسية حين كرر كلامه عن تفكك العصبيات وضعف الولاءات التقليدية والنعرات المحلية الذاتية والفئوية وتركيزه على تميز المدينة ودور العاصمة كقوة تغيير جديدة. ولاشك تطغى على الكلام المذكور قراءة ايديولوجية إرادية وغير واقعية لأن السودان كان ولايزال يعيش مرحلة تاريخية تنتمي إلى ما قبل اكتمال شروط قيام الدولة الحديثة، بل إن العلاقات التقليدية على أنواعها تشكل قوة فعل في الحياة العامة كموروث اجتماعي متداخل مع حالات التدين المختلفة السائدة في البلاد. وربما تكون نزعة التحليل الإرادية الايديولوجية هي التي قادت لاحقا إلى تعديل استراتيجية التغيير السلمي التدرجي واستبدالها بسياسة دعم الانقلاب والاضمحلال في الدولة بصفتها الطرف الوحيد القادر على صوغ الشخصية التاريخية والسياسية للسودان الحديث.
يمكن قراءة الرهان على الدولة وتأسيس ايديولوجيتها الدينية المعاصرة من خلال نصوص الدستور المقترح التي اعتمدها المؤتمر التأسيسي للجبهة وأصدرها في النهاية كبرنامج عمل في سياسته المقبلة، وهو دستور يشير إلى عقلية نخبوية وبداية نشوء بذور منهج انقلابي في تفكيره.
يركز دستور الجبهة في المادة الثالثة على سعيها لإقامة «الحكم الإسلامي الهادف لرعاية مقاصد الدين وكفاية مصالح الناس والمؤسس على الشورى والمساواة وحق الجمهور في تقرير الشئون العامة وفي اختيار ممثليهم من أهل الحل والعقد والقيادة والتنفيذ...»، وتؤكد المادة الرابعة أنه «لا إكراه في الدين، وإن تضمن طلاقة التعبير عن الرأي، وحرية الحركة والاجتماع وحصانه الدم والمال والعرض، وحرمة المنزل والحياة الخاصة». وتطالب الجبهة في المادة التاسعة بترسيخ «النظام اللامركزي في حكم البلاد حتى تدار أطرافها المترامية بفعالية وحرية وشورى مبسوطة». وتعد المادة العاشرة بصيانة «حقوق الكيانات الدينية غير المسلمة بما لها البر والقسط والسماحة في المعاملات الخاصة، والمساواة في الحقوق السياسية والمدنية، وحرية الاعتقاد والعبادة، واستقلال نظم الأحوال الشخصية والتعليم الديني». وبعد أن يحدد الدستور في بابه الأول الأهداف الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ينتقل في الباب الثاني إلى تحديد وسائط تحقيق الأهداف فتنص المادة 32 على الاشتراك في مؤسسات الحكم التشريعية والتنفيذية ترشيحا وانتخابا لتوجيه المجتمع وتنظيم حياته.
بعدها ينتقل إلى الباب الثالث فيتحدث عن التنظيم في المادة 37 ويشير إلى أربع هيئات: المؤتمر العام، وهيئة الشورى العامة، والقيادة التنفيذية، وأخيرا الأمين العام. وتوضّح المواد الباقية من 39 إلى 56 أسلوب تنفيذ إدارة التنظيم وكلها تركز على التمثيل النسبي والانتخاب والشورى والأساليب الدستورية الأمر الذي ينفي عن الجبهة تهمة التخطيط المسبق للانقضاض على الدولة، ويبدو أن الفكرة الأخيرة تبلورت بعد انتخابات 1986 وإخفاق التجربة الديمقراطية وسياسة التنسيق والتحالفات.
حتى البيان الختامي لمؤتمر الجبهة التأسيسي كرر مواد الدستور وحذر أولئك الذين «لا يؤمنون بقيم الحرية ولا يراعون مبادئ الديمقراطية ويعوزهم السند الشعبي» من التفكير بالتغيير العسكري، وطلب منهم أخذ العبرة من مصائر «تجربتي الديمقراطية منذ الاستقلال، حتى لا تتبدد طاقات الشعب الواحد في شعاب الحزبية الضيقة». وشدد على أن وسائط الجبهة هي «طريق الانتخابات وتحقيق علاقات الموالاة السياسية» و «قاعدة الشورى الواسعة». (البيان الختامي، ص 25، 27).
يبدو من كلام الترابي أنه كان على قناعة بأن الجبهة الإسلامية ستفوز بغالبية المقاعد البرلمانية انطلاقا من تحليله الذي يقول بتفكك الولاءات التقليدية والعصبيات الطائفية والمذهبية وبدء لجوء الناس إلى الإسلام المعاصر المنفتح على العالم وترك إسلامهم التقليدي الموروث والمندمج ببيئات محلية ضيقة وهامشية. وبسبب هذه العقلية الاستبدالية تشكلت ضده مواجهات شخصية قبل الانتخابات أدت، كما ذكرنا، إلى إسقاطه بتحالف كل القوى التقليدية والعلمانية في دائرته، كذلك اقتصر فوز حزبه على القطاعات الحديثة والفعاليات الاقتصادية المدينية بينما عجز عن اختراق معاقل الأنصار والختمية التي حافظت على ولاءاتها التقليدية القديمة واقترعت لحزب الأمة (الصادق المهدي) والاتحاد الديمقراطي (الميرغني).
نجحت المناطق والأرياف في تأمين غالبية برلمانية للقوى التقليدية، بينما استقرت مواقع الجبهة على تشكيل قوة ثالثة من رجال القانون والطب والدكاترة والمهندسين ورجال الأعمال وأصحاب المهن الحديثة. لم تنجح فرضية الترابي انتخابيا على رغم أنه افترض صحتها على أرض الواقع وربما يكون السبب المذكور هو الدافع الحقيقي لتأييد الانقلاب العسكري بعد أن شعر أن القوى التقليدية اتجهت برلمانيا وإقليميا إلى التحالف لعزل حزبه وإبعاده عن صنع القرار السياسي، فتبدل المقال بعد أن تبدلت الأحوال.
بعيدا عن تقييم تجربة «ثورة الإنقاذ» يمكن ملاحظة الاصطفاف ضدها من الأحزاب التقليدية والقوى العلمانية إلى الحلقات الصوفية والحركة السلفية مضافا إليها فرع الإخوان المسلمين في السودان، كذلك الفرع الإخواني في مصر الذي بادر إلى توجيه انتقادات ووضع ملاحظات على التجربة.
في كتابه «الثورة والإصلاح» يشرح الأفندي أسباب وعوامل كراهية الترابي من قبل اليساريين والإسلاميين (التقليديين والإصلاحيين) ويشير إلى محاولة مجموعة ضمت معظم العناصر القيادية في التنظيم (الإخوان) إزاحته من القيادة في مؤتمر عقد في نيسان/ أبريل 1969 و «لكنهم لم ينجحوا في إزاحته، وكان محور الاتهامات التي وجهها منتقدو الترابي له أنه التفت إلى السياسة وركز عليها على حساب التربية والانتقائية في العضوية (...) وحين تصاعد الجدل حول هذه الناحية، قدم الترابي تنازلا لمنتقديه بأن تخلى عن زعامة تنظيم الإخوان المسلمين لواحد من هؤلاء المنتقدين (...) بينما تفرغ الترابي للعمل السياسي وإدارته عبر التنظيم الموسع (جبهة الميثاق الإسلامي) التي كانت تضم مدارس متعددة ويجمعها اتفاق على حد أدنى من الموجهات (...). في منتصف السبعينيات تجدد الصراع مرة أخرى حول توجهات التنظيم...» (صحفات 226 و227 و228).
يمكن تفسير تلك المواقف بالحساسيات والمنافسات الحزبية والطموحات السياسية (خصوصا حركة الإخوان في مصر والسودان) إلا أن الأساسي فيها يعود إلى اختلاف منهج الترابي نفسه وتطوره التصادمي، وتأكيده الدائم على تجديد الأصول الفقهية بتوسيع القياس لإحداث ثورة اجتهادية دائمة، وهذا لا يتوافق مع كثير من الاتجاهات الإسلامية التقليدية والمعاصرة وهو أمر يفسر لماذا كانت معركة الترابي مع الإسلاميين لا تقل أهمية عن معاركه مع العلمانيين. فالسودان مجتمع إسلامي وتدينه الشعبي فطري ومتوارث تقليديا ولم تنهض فيه دولة استبدادية علمانية على غرار دولة أتاتورك في تركيا، لذلك كانت مشكلة الترابي مع هذا النوع من الإسلام فطرح أفكار التجديد والتنوير ليتمايز عن القوى السياسية الإسلامية الأخرى، بينما كانت في تركيا معركة أربكان الأساسية قبل إسقاطه مع العلمانيين واستبداد الدولة الأتاتوركية، وربما تشبه معركة الجزائر بين الإسلاميين والعلمانيين تلك المعارك التي حصلت في تركيا منذ أكثر من 70 سنة. فالتجربة الجزائرية الدموية هي أقرب إلى النموذج التركي منها إلى النموذج السوداني السلمي المسالم، فالدولة في الجزائر قوية ومسيطرة على المجتمع وتهيمن على البلد وثرواته، وتعتبر البلد الثاني من حيث المساحة في إفريقيا بعد السودان، ولكنها أقرب في طبيعتها السلطوية إلى النموذج الأتاتوركي.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2030 - الخميس 27 مارس 2008م الموافق 19 ربيع الاول 1429هـ