من لم يُدرك شيراكِيّة فرنسا فلن تُزعجه ساركوزيتها اليوم. ومن حَرَقَ الزمنُ ذاكرَتَه عن موقفها (فرنسا) خلال الحرب على العراق تجنُّبا لحدوث «قطيعة عالمية بين الشرق والغرب» فلن يتأفّف من تصريح الرئيس نيكولا ساركوزي الأخير عن «ضرورة الإبقاء على قوة ردع قويّة لمواجهة التهديدات الأمنية التي تمثّلها دولة إسلامية مسلّحة نوويا كإيران». بالتأكيد فإن ساركوزي لن ينقلب على المؤسسات الدستورية للجمهورية الخامسة والتي تأسّست بعد استفتاء سبتمبر/ أيلول 1958 لكنه بالتأكيد لن يكون كزعاماتها منذ تحريرها من الاحتلال النازي مثل شارل ديغول الذي مانع الولايات المتحدة الأميركية وسياساتها في أوروبا، مع أنها حرّرت بلاده وأغرقته وغيره بأموال مشروع مارشال لإعمار أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، ولن يكون كجورج بومبيدو الذي كانت له سياسة شرق أوسطية خاصة حين باع الليبيين طائرات ميراج إف 1 أو كجيسكار ديستان الذي استمرأ «الدردشة وشيّ الكستناء وتذوّق النبيذ» لإنتاج دستور أوروبي رشيق، أو كفرانسوا ميتران الذي استخدم حق النقض (الفيتو) ضد رغبة واشنطن في تحشييد الدول الصناعية ضد الإرهاب الدولي، متشبّثا بسياسة «معالجة المظالم» وقطعا هو لن يكون كجاك شيراك الذي ناهض الغلواء الأميركي في الحرب على العراق إلى درجة دفعت بستة فرنسيين من كل عشرة (60 في المئة) لأن يعتقدوا بأن السياسة الفرنسية التي كان ينتهجها الرئيس شيراك تقوي أوروبا في وجه الولايات المتحدة. ساركوزي الذي هزّ كتفه متسائلا عن سبب معاداة الجمهورية الخامسة للولايات المتحدة الأميركية طيلة الفترة السابقة، لا يبدو أنه قادر على تجاوز الإرث الديغولي أو اليساري الاشتراكي أو حتى الليبرالي الذي تطبّعت به الدولة الفرنسية طيلة خمسين عاما، فموضوعات كبروتوكول كيوتو والقطبية المتعددة والمناكفات الثقافية بين الأنغلوساكسونية والفرانكفونية للسيادة، هي كلها أمور مازالت غير محسومة، بل إن بعضها قد تحول بفعل الأحداث وتشابك المصالح إلى جزء من الهوية الفرنسية أو على أقل تقدير إلى سلوك نَشِط داخل الوجدان الفرنسي، وهي بالتالي لن تستقيم مع السياسات التي ينتهجها ساركوزي اليوم والمندفعة بشكل غريب نحو الأمركة، وربما كانت نتائج الانتخابات البلدية الأخيرة رسالة أولى في هذا الاتجاه.
الجميع كان يرى زعماء فرنسا المتقدمين والمتأخّرين على واجهات الصّحف وهم يُقرّرون مواقف لافتة تُعزّز من دور فرنسا كقطب مهم في «الناتو» وفي المعادلات الدولية، أما ساركوزي فقد كان طعما سائغا تقتات عليه الصحافة الصفراء حين وجدته شخصية مُستباحة، فهو يُطلّق زوجته سيسيليا سيجنار ألبنيز تارة ثم يصطحب عشيقته إلى مصر تارة أخرى، ثم يُعلن زواجه من عارضة الأزياء والراقصة كالا بروني، ثم يُعلن أمن قصر الأليزيه عن تلقّي الرئيس لرسائل إعجاب وغرام من مُعلّمة عاشقة، إلى الحد الذي دفع بصحيفة «نيويورك تايمز» لأن تنشر خبرا يفيد بأن 252 مطبوعة خلال العام الماضي قد خصّصت واجهاتها الأولى لصور ساركوزي وهو في مواقف درامية مختلفة.
يَذكُر دومينيك دوفيلبان عندما كان وزيرا لخارجية بلاده أنه توجّه إلى مقابلة البابا يوحنا بولس الثاني في الفاتيكان قبل الحرب الأميركية على العراق، لشرح الموقف الفرنسي من الحرب، ويتذكّر الوزير دوفيلبان أن البابا خبط أربع مرات متتالية علـى كرسيه وهو يقول: «لتعش فرنسا»، معربا بذلك عن تأييده لموقف الفرنسيين الرافض للحرب، واليوم لا أدري فيما لو زار برنارد كوشنير (أو حتى الرئيس ساركوزي نفسه) الحبر الأعظم ماذا يا ترى سيسمع من البابا بينيدكت السادس عشر؟ بل هل لديه ما يُمكن أن يقال للبابا غير صدى السياسات الأميركية في قلب العاصمة باريس، أو عن غراميات الأليزيه!
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 2029 - الأربعاء 26 مارس 2008م الموافق 18 ربيع الاول 1429هـ