«صباح الذل الإمفصخ»! ربما كانت أولى التحيات التي تلقيتها من أحد المتصلين ممن كتب له أن يكون من بين الـ32 ألف المبشرين بجنة الخمسين دينارا بحرينيا فقط لا غير. لا أذكر أبدا أني خاطبت مستحقا أو غير مستحق - وإن انطبقت عليه شروط الاستحقاق لدخول عالم الخمسين دينارا - إلا وأبدى لي ضيقه وتبرمه ورفع أكف الدعاء الساخن على من تسبب بفضحه والتشهير به صحافيا من دون أن يتقي الله ويستر عليه بلواه «أخزاهم الله» و «حسبي الله ونعم الوكيل»!
فحمدت ربي كثيرا على أني لم أكن من بين من أريقت كرامتهم صحافيا في «صباح الزفت» ذاك. وأحسب أن من كانت له كرامة أساسا سيرفض على الفور مثل هذه المذلة في حقه وإن كان هذا السعر هو السعر البخس ذاته للمواطنة الذي لم يحركه ويقشعره التضخم. فإن كنا آمنا بأن القرش الأبيض ينفع في اليوم الأسود فلم نؤمن قط بأن يكون مثل هذا القرش الأبيض الملعون هو اليوم الأسود ذاته الذي لم يتم تسلمه فيه بعد!
فلأعترف بأن هذه المرة من ضمن المرات القلائل التي أنجح فيها في كسب رهان مجازف وخيالي حينما توقعت متهكما بسوداوية قبلها نشر أسماء المستحقين في الصحف اليومية، وربما إجراء مقابلات إعلامية معهم من ضمنها سؤال «ماذا ستفعل بالخمسين دينارا؟»، وإن كان نصف الرهان لم يكتمل بما فيه موضوع «المقابلات» و «الزفات» الإعلامية إلا أنك ما إن تكتشف أن سواد الحقيقة في البحرين هو أكثر عمقا وخصوبة بكثير من زرقة الخيال فإن موضوعات الرهان والمغامرات تصنف إلى أمور مستحقة جدا كما تستحق الخمسون دينارا وأمها الأربعون مليونا!
وقد قلنا من قبل في مقالنا «إن الخمسين دينارا هي صدقة لبعض المستحقين، على حين أننا بصفتنا مواطنين ننتظر (المقسوم)» المتحصل من الإيرادات الاقتصادية وننتظر استراتيجية الدولة والحكومة لمواجهة أزمة التضخم التي ربما يشكل غياب هذه الاستراتيجية المفترضة طبيعيا أزمات اجتماعية أكبر من التضخم في حد ذاته. وقد ثبت عقلا وشرعا وقياسا أن «علاوة الغلاء» ما هي إلا صدقة لم تشمل كامل مستحقيها حينما أنيطت مهمة متابعتها بوزارة التنمية الاجتماعية وإن كنت أفضل لو تم تحويلها إلى القنوات التوزيعية للصناديق الخيرية التي ستكون أكثر فاعلية في توزيعها، باستثناء الأجندة السياسية الطائفية، وربما تكون أكثر تكتما على الأقل من «الحكومة» في نشر الأسماء وفضحها في الصحافة بشكل مهين ومذل عسى أن يحسب «فعل خير». وإن كنت قد تسلمت قبل هذه الفضيحة رسالة من تحت المعاناة عن أزمة المتقاعدين ذوي الدخل المحدود سأتطرق لها في مقال لاحق من دون أن أذكر اسم الأخ العزيز الذي أرسلها إلي عسى ألا أتسبب بإذلاله والتشهير به كما فعلوا مع مستحقي الخمسين دينارا!
ولو كان لنا أن نعتبر صراحة ما حصل مع موضوع الخمسين دينارا التي أسقطت بلدانا وأقامت بلدانا وشقت بحورا وشطآنَ فهي قضية الإخفاق في التنسيق بين أجهزة الحكومة وقبلها الفشل الذريع وغير المعلن في مواجهة أزمة التضخم على العكس من دول خليجية شقيقة تفاخرنا أمام مسئوليها بريادتنا وتفوقنا، والأهم هو الفشل في المحاسبة والمساءلة من أعلى المستويات إلى أدناها. فمن يجرؤ على التلكؤ في تنفيذ توجيهات سمو رئيس الوزراء؟ ومن يجرؤ من النواب على عدم توصيل متطلبات المواطنين الذين منحوهم ثقتهم إلى كبار المسئولين بحجة الخشية من «الاصطدام بالحكومة»؟
شفى الله المناضل الوطني الكبير الوالد عبدالرحمن النعيمي الذي قال ذات يوم: «ليس النائب من ينكس رأسه إذا واجهه كبار المسئولين في الحكومة بـ(العين الحمرة)»!
وبالنسبة إلى المأزق السياسي الكبير الذي وقعت فيه السلطة التشريعية بعد اللعبة السياسية التي وقع فيها كر وفر الخمسين دينارا، فإننا نأمل من إخواننا النواب الأفاضل الذين عولنا عليهم كثيرا أن يردوا تلك الإهانة للشعب بأن يقبلوا تقديمهم استقالاتهم من هذا البرلمان طالما أنهم مازالوا يحترمون تاريخهم السياسي الوطني وطالما كانت كرامة الشعب وكلمته بين صميم أجندتهم البرلمانية تكتيكا واستراتيجية. فاستقيلوا واخرجوا منها وأنتم الأعلون.
فهناك من النواب الأفاضل ممن كان يفاضل بين الحياة والموت يوميا قبل أن يدخل البرلمان وكان مفعوله السياسي بالنسبة إلى آلام الشعب المهيضة يقدر بمفعول أقراص الـ «Profen 600» ولكنه للأسف ما إن دخل البرلمان حتى أصبح مؤدبا وخلوقا فوق اللازم وتحول مفعوله إلى «PANADOL» ومن ثم وصل إلى مفعول بودرة الـ «Dakasan» المبردة للالتهابات الجلدية!
ولا أظن أن من مصلحة السلطتين التنفيذية والتشريعية ما يروّج في الساحة من «نظريات سياسية» تدور حول حرمان العائلات المستحقة التي لم تشارك في التصويت الانتخابي النيابي من «علاوة الغلاء»، كما أننا - وإن أشرنا في مقالاتنا إلى الأبعاد المدمرة للوثة التجنيس على ما يبذل من جهود ومبادرات تنموية وطنية - تبدت تلك الأبعاد الهادرة هذه المرة في «علاوة الغلاء» إلا أن ما نود التحفظ عنه هو اللجوء إلى نشر قوائم بمسميات غريبة عن المجتمع البحريني باعتبارها قوائم لمتجنسين متطفلين. فلقد وجدت للأسف من بين قوائم الأسماء المنشورة اسما لمواطن بحريني أعرفه من أصول باكستانية وكان قد ولد وأشقاؤه في البحرين وترعرعوا فيها لما يزيد من الأعوام الخمسين وخدموا البحرين وخدمها أولادهم أحسن وأشرف خدمة، ولا تكاد تحدث فرقا بينهم وبين مواطنين بحرينيين آخرين هذا إن لم تفاضلهم في محكياتهم الشعبية الدارجة. أفلا يستحق أمثال هؤلاء من المخلصين الجنسية البحرينية وخدماتها المواطنية؟ وهل من اللائق الاستمرار في فضحهم بهذه القوائم الـ «specific» بعدما فضحتهم قوائم «يوم المحشر» صباح السبت الكئيب مع سائر المواطنين؟
وفي ختام هذه البكائية الناقمة أتمنى أن يكون حظ المواطنين البحرينيين على الأقل كحال هنود الكويت الذين حصلوا على الخمسين دينارا كويتيا (لاحظ فرق العملة) سالمين وغانمين، على العكس من حال البحرينيين المساكين أو «هنادوة الخليج» الذين أذلوهم أيما إذلال على قندة الخمسين دينارا بحرينيا نازلا من دون أن يذوقوا طعمها، علما أن وراء كل مواطن هندي سفيرا عظيما ووراء كل بحريني فضيحة إذلال وتشهير تنشر في الصحف اليومية التي انتهت حينها بسرعة خارقة من الرفوف لكأن «فأمّا من أوتي كتابه بيمينه* فسوف يحاسب حسابا يسيرا* وينقلب إلى أهله مسرورا* وأمّا من أوتي كتابه وراء ظهره* فسوف يدعو ثبورا* ويصلى سعيرا» (الانشقاق: 7-12).
إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"العدد 2029 - الأربعاء 26 مارس 2008م الموافق 18 ربيع الاول 1429هـ