موضوع القرصنة بدأ يتحول من مشكلة أمنية إلى مسألة سياسية. وهذا التطور من الأمن إلى السياسة يفتح الباب رويدا نحو تدويل الأزمة وتحويلها إلى نقطة تجذب الأساطيل إلى منطقة وصفها تقرير «المكتب البحري الدولي» قبل شهر بالأخطر والأهم تجاريا. والوصف المذكور يعطي أهمية استثنائية لمسألة تعاملت معها القوى الإقليمية باستخفاف ما أدى إلى تقديم فرصة للدول الكبرى بالتدخل.
وزير الدفاع الأميركي روبرت غيتس تطرق إلى موضوع القرصنة في خطاب القاه في منتدى «حوار المنامة» الذي أنهى جلساته في البحرين أمس. فالوزير الأميركي أشار في مداخلته إلى محاور مختلفة تتصل بالأمن في منطقة الخليج فتعرض إلى العراق و«الاتفاقية الأمنية» والانسحاب التدريجي، وتعرض إلى سباق التسلح والنفوذ الإقليمي الإيراني طالبا من دول الخليج العربية لعب دورها في الضغط على طهران لتغيير سياستها، وتعرض إلى تنظيم «القاعدة» وضرورة تصفية الحسابات معه في أفغانستان وخارجها إذا اقتضت الضرورة، وتعرض إلى الخليج وأمنه ونفطه ودور مجلس التعاون وضرورة توسيعه. كل هذه النقاط ذكرها غيتس في مطالعته وهي في معظمها قديمة. الجديد في كلمة الوزير الأميركي هي إشارته إلى تحديات الفقر والقرصنة والنزاعات الطائفية لافتا إلى وجود قاسم مشترك بين «الفقر» و«القرصنة» و«الطائفية». وهذا الربط الأميركي بين التحديات الثلاثة يرسم خريطة طريق دولية لسياسة محتملة يمكن أن تمتد وتنتشر مع نمو الظواهر الثلاث وخصوصا موضوع القرصنة الذي أخذ يحتل المقام الأول في الاهتمام العالمي.
غيتس أشار إلى مخاطر القرصنة والعقبات التي تواجه الإدارة الأميركية في احتواء تفاعلاتها الإقليمية. فذكر أن مساحة نشاط القراصنة واسعة جغرافيا وتساوي نحو مليون ميل مربع. وبسبب مشكلة اتساع المساحة الجغرافية التي تتحكم بها ثلاث عائلات (عشائر) صومالية اقتصرت مهمة القوات البحرية الأميركية على إصدار تعليمات للسفن التجارية ترشدها على الحماية وتجنب الوقوع في المصائد. واعتبر غيتس أن أساس الصعوبات في مطاردة القراصنة يبدأ بعدم توافر معلومات محددة ومؤكدة وعدم وجود تشريع يعطي صلاحيات قانونية للقيام بالمهمات. لذلك لمح غيتس إلى ضرورة لعب الأمم المتحدة دورها في تغطية القوات الدولية وإعطاء صلاحيات تسمح بملاحقة القراصنة برا وداخل الأراضي التي تستخدمها مناطق لجوء. وهذا يعني أن المطاردة يجب أن تكون شاملة ولا تقتصر على البحار فقط.
موضوع القرصنة لم يعد من المشكلات التفصيلية وإنما أخذ يتحول إلى عمل حربي بناء على رؤية غيتس والكثير من الجهات الأميركية والدولية. وكلام وزير الدفاع في «حوار المنامة» جاء يتوج سلسلة خطوات بدأت تتوضح معالمها منذ ثلاث سنوات حين أقدم الرئيس الأميركي جورج بوش على توقيع وثيقة في العام 2005 تطالب بضمان أمن الملاحة وخطوط التجارة. وجاء توقيع بوش اعتمادا على اتفاقين «اتفاقية سلامة الأرواح في البحار» و«اتفاقية المدونة الدولية لأمن السفن والمرافئ».
توقيع بوش على وثيقة تضمن أمن الملاحة جاء في فترة كانت خلالها «المحاكم الإسلامية» تسيطر على معظم الصومال. وحين انهارت سلطة «المحاكم» بعد تدخل القوات الاثيوببة في العام 2006 تراجع الاهتمام الأميركي بحماية سفن الشحن والنقل إلى أن انتشرت الفوضى وأخذت تمتد بحريا.
تدويل القرصنة
عودة الاهتمام الأميركي بأمن المحيطات وربطه بالقرصنة والفقر والطائفية تشير إلى وجود نوع من القراءة السياسية لمجموعة مشكلات ووضعها تحت عنوان مشترك حتى تشكل ذريعة للتدخل برا وبحرا في المستقبل تحت مظلة دولية. وهذا ما يمكن رصده من خلال تعداد الخطوات المتتالية التي اتخذت في الشهرين الماضيين تحت سقف ملاحقة القرصنة. في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي صدر عن مجلس الأمن القرار الدولي الرقم 1838 الذي يعطي صلاحيات باستخدام القوة وتفتيش السفن. إلا أن هذا القرار لم يف بالحاجة لأن أميركا والدول الكبرى تعتبره ناقصا ويحتاج إلى تطوير أو تعديل أو تحسين الشروط القانونية التي تعطي حق المطاردة بحرا وبرا وداخل الأراضي الصومالية وغيرها من بلدان إذا اقتضى الأمر. ومثل هذا القرار الذي تعمل الدول الكبرى على إصداره قريبا عن مجلس الأمن يمكن أن يشكل المدخل القانوني للتدخل بذريعة مكافحة إرهاب القراصنة وتهديدهم للتجارة الدولية «وسلامة الأرواح في البحار» و«أمن السفن والمرافئ».
مجلس الأمن يستعد الآن إلى إصدار ذاك القرار الذي يتحمل أن ينص على حق الحماية الدولية للتجارة البحرية ومطاردة القراصنة برا وذلك بناء على خطوات ميدانية اتخذت في الفترة الأخيرة ردا على عمليات خطف بلغت المئة في السنة الجارية. فالقراصنة يحتجزون الآن 17 سفينة وناقلة و300 بحار ما يعني أن هناك فرصة لصدور قرار دولي يعزز تلك الأنشطة المضادة التي اتخذها الحلف الأطلسي (الناتو) والاتحاد الأوروبي وألمانيا والأسطول الخامس وشركات الأمن الخاصة. «الناتو» أعلن عزمه على إرسال أساطيل لمطاردة القراصنة. الاتحاد الأوروبي شكل قوة تألفت من سبع دول بقيادة بريطانيا لضمان أمن الشحن. ألمانيا قررت إرسال مدمرة و1400 جندي لمكافحة القرصنة. شركات أمن خاصة (بلاك ووتر) شكلت قوات بحرية مستقلة لمساعدة الدول ومؤسسات النقل على حماية خطوطها التجارية. قائد الأسطول الخامس أعلن استعداده للتدخل الفوري بعد صدور قرار واضح من الأمم المتحدة يعطي صلاحية قانونية لمحاربة القراصنة ومطاردتهم بحرا وبرا.
موضوع القرصنة الذي تحول إلى مادة للبحث في «حوار المنامة» ونقطة أمنية يتم التفاوض بشأنها لإصدار قرار عن مجلس الأمن يعطي صلاحيات قانونية لمكافحتها لم يعد بالإمكان تجاهله والاستخفاف بعوارضه الجانبية؛ لأنه يشمل مساحة جغرافية واسعة كما ذكر غيتس في خطابه، كذلك يضع منطقة مهمة تحت الرقابة الدولية. فالدائرة التي يجري التعرض لها تتركز الآن في المثلث البحري الذي يشمل المحيط الهندي وبحر العرب (مضيق هرمز) وساحل الصومال (باب المندب والبحر الأحمر). وهذا المثلث البحري المهم والخطير يمكن أن يتحول إلى منطقة عمليات حربية برية وبحرية في آن بذريعة المطاردة والملاحقة إلى داخل الأراضي الصومالية ومحيطها (القرن الإفريقي وامتداداته).
الترابط البحري - الأمني الثلاثي المعطوف على التحدبات الثلاثة التي تطرق إليها غيتس في خطابه (الفقر، القرصنة، والطائفية) يشكلان نقاط تقاطع تتداخل فيها مشكلات إقليمية وعربية وإفريقية. فهناك وجه صومالي للأزمة بدأ بانهيار نظام محمد سياد بري المركزي في العام 1991 ثم تجددت الفوضى بعد سقوط سلطة «المحاكم» في العام 2006. وهناك وجه إفريقي للأزمة يمتد من واجهة الساحل الشرقي للقارة على خط بحري مفتوح على 3700 كلم ومكشوف على القرن الإفريقي وصولا إلى اريتريا والسودان وأثيوبيا وكينيا. وهناك وجه إقليمي عربي - خليجي للأزمة يبدأ بخطوط النقل والإمدادات ويصل إلى البحر الأحمر وقناه السويس والبحر المتوسط. وهناك وجه دولي لأزمة القراصنة يتصل بأمن الخليج واستقراره وخطوط الأمداد النفطي - التجاري وسفن الشحن التي تعبر يوميا باب المندب (خليج عدن) باتجاه أوروبا.
موضوع القرصنة الذي تأخرت الدول الإقليمية المعنية مباشرة بالمخاطر التي تهدد مصالحها التجارية في معالجته والتصدي له، بدأ يتطور أمنيا وأخذ يتحول إلى قضية سياسية كبرى يعطي ذريعة للدول صاحبة المصلحة في التدخل أن تستخدمه واسطة يمكن البناء عليها. فالموضوع اتسع نطاقه خلال الفترة الماضية وتصاعدت مخاطره في الشهرين الماضيين ما ساعد على طرحه على جدول المهمات الساخنة في أروقة الأمم المتحدة. الآن كل الدول الكبرى تنتظر صدور قرار عن مجلس الأمن يجيز استخدام القوة والسماح بمطاردة القراصنة برا. وفي حال صدر القرار يصبح المثلث البحري الممتد من المحيط الهندي وبحر العرب إلى ساحل الصومال (القرن الإفريقي وخليج عدن) منطقة مكشوفة للأعمال الحربية المشروعة دوليا.
@ المقال كلمة ألقيت في لقاء عقد في مجلس الدوي في المحرق
بتاريخ 13 ديسمبر/ كانون الأول الجاري
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2292 - الأحد 14 ديسمبر 2008م الموافق 15 ذي الحجة 1429هـ