لعلَّ متابعة المناوشات النيابية «النابية» خلال الأسابيع الماضية توضح قدراتنا وثقافتنا... فالبرلمان نشأ في الأساس من أجل الوصول إلى تفاهم يعبّر عن الإجماع الوطني، وهذا الإجماع يتطلب روح التسامح والعطاء والتعاضد من أجل الخير ومن أجل الوطن، وهي صفات كان المسلمون معروفين بها.
ففي القرن السابع الميلادي كتب أحد القساوسة رسالة إلى أحد أصدقائه يشرح فيها طبيعة الحكم الإسلامي الذي استبدل الحكم البيزنطي في الشام وفلسطين قائلا: «هؤلاء (المسلمون) أصبحوا سادتنا بعد أن مكّنهم الله هذه الأيام، غير أنهم لا يحاربون ديننا المسيحي، بل على العكس يحمون عقائدنا ويحترمون قساوستنا ورجالنا المقدسين، وأيضا يتبرعون لكنائسنا وصوامعنا».
مبدأ التسامح والتعايش الذي عمل به المسلمون قبل أربعة عشر قرنا استلهمه الأوروبيون وخرجوا بسببه من عصور الظلمات. ففي القرون الوسطى لم تكن أوروبا تعرف معنى التسامح على الإطلاق، وكان أتباع المذاهب المسيحية يعانون من بعضهم الآخر، وكان بعضهم يمنع الآخر من ممارسة عبادته، بل إن الجامعات العريقة مثل جامعة كامبردج البريطانية كانت تمنع أتباع المذهب الكاثوليكي من الالتحاق بالتعليم العالي بها. كما وأهلكت الحروب الدموية والطاحنة الشعوب الأوروبية التي كان يسيطر عليها رجال الكنيسة والإقطاعيون والملوك الاستبداديون. كانت بدايات عصور النهضة والخروج من التخلف تتمثل في تحدي الدكتاتورية من جانب ونشر مبدأ التسامح من جانب آخر. والتسامح يعني قبول التعايش مع الطرف الآخر الذي أختلف معه في الفكر والأسلوب.
ويوم أمس (الثلثاء) كان وزير الخارجية البريطاني ديفيد مليباند الضيف الرئيسي لاجتماع كبير لمسلمي بريطانيا في لندن، وكذلك تم إيصال الحفل بخطاب متلفز لرئيس الوزراء البريطاني غوردون براون الذي أشاد بإنجازات الجالية المسلمة في بريطانيا، قائلا: «نحتفل بإنجازات المسلمين البريطانيين في جميع مناحي الحياة، وهم ناجحون إلى الدرجة التي تحدّوا فيها التصور النمطي السلبي عن المسلمين المنتشر في وسائل الإعلام، والمسلمون يمثلون قدوة نفخر بهم في مجتمعنا». رسالة القس قبل 1400 سنة كانت تصف حال المسلمين عندما سادوا، ورسالة براون تصف حال المسلمين وهم جالية هاجرت الى بلاد أخرى وانتعشت من خلال استعادة مبادئ حضارية جاء بها دينهم.
ولكن الغريب اننا في بلداننا المسلمة ننشر ثقافات الكراهية واقتسام الوطن وكأنه غنيمة حرب. الآخرون الذين تعلموا التسامح والعطاء من المسلمين طوروا وسائل حضارية من أجل التعايش، ومن تلك الوسائل «البرلمان» الذي يقوم على ثقافة تجمَع ولا تُفرق... ولذا نأمل ألا نكون ممن يخرب وسائل معاصرة تأسست من أجل التسامح والحوار والعطاء.
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 2028 - الثلثاء 25 مارس 2008م الموافق 17 ربيع الاول 1429هـ