قبل مئة عام، أُرسِل الكاتب أحمد أمين إلى جنوب مصر، ليعمل قاضيا في الصعيد، حيث الفقر والبؤس وحكم الإقطاع... وكل ما يثير غضب الحر الشريف.
على أن أكثر ما أثاره وكتب عنه، حديث خطيب صلاة الجمعة آنذاك، إذ كان يخطب في الناس، وأكثرهم من المعدمين والفقراء، مطالبا إياهم بالاقتصاد في المعيشة والزهد في الحياة!
أما في مطلع القرن الحادي والعشرين، فهناك لجنةٌ بمجلس شورى إحدى البلدان العربية، شكّلها رئيس المجلس بعد «تمنّع» عددٍ من الأعضاء عن قبول عضويتها، وذلك لدراسة مشكلة «الغلاء».
هذه اللجنة أصدرت بيانا يوم أمس الأول، كلما قرأته يرتفع ضغطك، وتتذكر المثل القائل: صج «...قلة صنعة»، فهذا ما تفعله قلة الشغل وكثرة الفراغ!
البيان البلاستيكي المحنّط، يبدأ بتأكيد رئيس اللجنة المؤقتة للغلاء، على أهمية «الاهتمام بثقافة الاستهلاك والاستفادة مما وصلت إليه المجتمعات الأخرى في هذا المجال»... وخصوصا بنغلاديش وإثيوبيا ومدغشقر والنيبال و... أوغندا!
اللجنة التي يُفترض أن تبحث عن حلولٍ لمشكلة «الغلاء» دعت الأسرة البحرينية إلى «إعادة النظر في تنظيم مصروفاتها اليومية وموازنتها بما يمكنها من التصدي لظاهرة غلاء الأسعار»، فالمشكلة هي مشكلة تبذير وإسراف... وليست غلاء وارتفاع أسعار!
البيان البلاستيكي وصل إلى باب الداء حين قال: «من أجل الوصول إلى مستوى (إيجابي) من الاستهلاك لابد أن تتمتع الأسرة بثقافة صحية واجتماعية وقانونية وشرعية منسجمة» (حلوة كلمة «منسجمة» ومناسبة جدا وفي موقعها كلّش)!
الثقافة الصحية والاجتماعية فهمناها، لكن لم نفهم ما دخل الثقافة القانونية والشرعية في ارتفاع أسعار الجبن وحليب الأطفال والحفاظات! وما دخل الثقافة الشرعية في ارتفاع أسعار الأراضي والعقار ومواد البناء! كم تمنينا لو أخذتنا اللجنة على (قد عقولنا)، فنحن ناس بسطاء لا نفهم في المصطلحات الشيزوفرينية والسايكلوبيدية و«الدغلباز»...!
ثم بدل ما تكون اجتماعاتكم «للخروج بتصور ومرئيات تساعد على وضع حلول تحد من نسبة الغلاء» كما زعم البيان الركيك، يرى الناس كل واحد منكم إمسوي روحه اللورد بوذا وقاعد يتفلسف في تقديم المواعظ «الخشبية» للناس!
ثم ويش سالفة الاجتماع مع ممثلي وزارة التربية والتعليم ووزارة الإعلام؟ ويش دخلهم في معالجة الغلاء؟ أم أنها خطة استراتيجية بعيدة المدى لتعليم البحرينيين «المسرفين» على الاقتصاد؟ تشوفون البحرينيين فايضة مخابيهم من الفلوس! والله زمن طرارة وطرطرة!
ثم ما دخل ممثلي بنك «أجنبي» لمناقشة كيفية نشر الثقافة والبرامج الاستهلاكية لدى المواطن البحريني؟ وكيف أعطيتم هذا البنك هذا الشرف دون غيره من البنوك؟ وهل هذا جائز دستوريا أم به مساسٌ بسيادة الدولة؟ وهل سيكون له دورٌ في «توعية النشء وزيادة وعي المرأة البحرينية وتوجيه الأسر لتحقيق أهدافها بأحسن الوسائل وأقل كلفة في حدود مواردها المالية والتسهيلات المتاحة ورفض التقليد الأعمى والعشوائي»؟ وهل أصبحت قضايانا الوطنية الخاصة جدا على هذه الدرجة من الإباحة والاستباحة؟
لست أفهم كثيرا مما يدور، ولكن الأكثر غرابة هو أن لجنة تشكل لمعالجة موضوع الغلاء... تتحوّل فجأة إلى لجنة فلاسفة وحكماء ومتنسكين! وأهم ما خرجت به من اقتراحات لمعالجة الغلاء هو «إقامة الفعاليات والمسابقات لتوعية النشء في المدارس والجامعات»!
والله العظيم لو ساكتين كان أحسن... وكفى الله المواطنين الفلسفات البلاستيكية... وتنظيرات لجان الغلاء والبلاء وما يولّده الفراغ
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 2027 - الإثنين 24 مارس 2008م الموافق 16 ربيع الاول 1429هـ