استغرب نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني خلال زيارته الضفة الغربية في إطار جولته على دول في «الشرق الأوسط» عدم قيام دولة فلسطينية، معتبرا أن هذه «الدولة» كان يفترض أن تقوم «منذ زمن طويل».
دهشة تشيني مستغربة فعلا وخصوصا أنها تأتي من المسئول الثاني في الإدارة الأميركية ويفترض أن يكون على اطلاع كافٍ على تفصيلات المواقف وعلى دراية بالأسباب التي حالت دون قيام تلك الدولة. التظاهر بالجهل وعدم المعرفة وطمس الأسباب تبدو في النهاية سياسة أميركية مشتركة أو متوافقا عليها بين المسئولين للتهرب من المسئولية وتحميلها لجهات غير واضحة الهوية.
في أفغانستان التي زارها تشيني خلال جولته تظاهر نائب الرئيس بعدم معرفة الأسباب التي أدت إلى انهيار الوضع الأمني وفشل خطة إعادة الإعمار وتفكك البلاد إلى دويلات قبلية يديرها أمراء حرب. حتى الرئيس الأفغاني المعين من قبل الاحتلال الأميركي (الأطلسي) حامد قرضاي أطلق في الآونة الأخيرة سلسلة تصريحات كشفت عن انزعاجه من السياسة الأميركية وأسلوب النفاق المتبع مع حكومته الضعيفة والمشلولة والمحاصَرة من مختلف الجهات.
الرئيس الباكستاني أيضا أعرب منذ فترة عن خيبة أملته من الإدارة الأميركية وانتقد في مذكراته التي صدرت العام الماضي أساليب الابتزاز المستخدمة من قبل واشنطن بقصد استنزاف دولته الفقيرة وتعريضها لمخاطرَ أمنيةٍ تزعزع استقرارها الداخلي وتدفع القوى الأهلية والمناطقية إلى التناحر الطائفي والمذهبي والقبلي.
في العراق أيضا تكرر الإدارة الأميركية «اللحن» نفسه حين أعربت مرارا عن خيبة أملها وفشل خطتها الأمنية وعدم قدرتها على ضبط الانهيار الشامل والانفلات الأهلي وانقسام البلد إلى دويلات صغيرة معادية للديمقراطية ولا تحترم خصومها وتعمل على تأسيس نماذج قهرية (استبدادية) مخالفة لذاك «النموذج» الذي وعد البيت الأبيض بتأسيسه ليكون تلك المنارة التي تجذب نحوها شعوب المنطقة.
الأمر نفسه حصل بعد العدوان الأميركي - الإسرائيلي على لبنان في صيف 2006. فالإدارة أعربت عن خيبة أملها من النتائج واندهشت كيف أسفرت سياسة تحطيم الجسور والمؤسسات والمدارس والمصانع والمطارات وما رافقها من حرق القرى وتدمير الأحياء والبلدات إلى إضعاف الدولة وشل قدراتها المالية والاقتصادية وعزلها في دائرة ضيقة يحيط بها أمراء الطوائف من كل الجهات.
النغمة نفسها أخذ بتلحينها نائب الرئيس في رام الله حين اكتشف فجأة أن «الدولة الفلسطينية» لم تقم وأنها كان من المفترض قيامها «منذ وقت طويل». والسؤال هل تشيني فعلا لا يعرف الأسباب التي عطلت قيام دولة في الضفة والقطاع أم أنه يتظاهر بالجهل حتى يتجنب المسئولية؟
تشيني ربط التأخير بإطلاق الصواريخ والهجمات الأمنية التي تقوم بها الفصائل الفلسطينية ضد «إسرائيل»، معتبرا تلك الخروقات مهددة لحياة المدنيين وأيضا «تطلعات الشعب الفلسطيني الوطنية». هذا الربط يكشف عن تفاهة سياسية في قراءة الملف الفلسطيني وانحياز واشنطن المطلق لتل أبيب. فالربط قلب الحقائق وعزل النتائج عن الأسباب حين تجاهل تشيني مسألة الاستيطان وتوسيع المستوطنات وبناء «جدار الفصل العنصري» الذي وصفه بوش مرة بالمشكلة ضمن الأراضي الفلسطينية.
تغييب تشيني العوامل الحقيقية التي أدت إلى تأخير قيام «دولة» فلسطينية لا يثير الدهشة ولا يطرح علامات استفهام. فهذا النوع من التجاهل يعتبر سياسة أميركية متعارفا عليها وتعتمدها واشنطن دائما للتظاهر أمام قادة المنطقة بأن ما يحصل على الأرض يخالف خطتها وأفكارها ومشروعاتها وأنها كانت تخطط وتفكر في تأسيس «نماذج» صالحة ولكن الظروف القاهرة أفشلتها وأحبطتها وخيبت آمالها.
سياسة ملتوية
هذه السياسة الأميركية الملتوية التي مضى عليها أكثر من 60 عاما واعتذر عنها بوش مرة ووعد بأنه سيقلع عن تَكرارها، تشكل في الأفق المنظور استراتيجية ثابتة في التعامل مع قضايا المنطقة العادلة والحساسة. والالتواء في التعامل السياسي مع قضايا المنطقة يبدو أنه السمة الوحيدة التي تستطيع واشنطن الإطلال من خلالها على الشعوب باعتبار مصلحة الإدارة الأميركية تقضي تعطيل إمكانات التطور ومنع قيام نهضة فعلية من خلال تشجيع الفوضى ونشرها ونقلها من مكان إلى آخر.
المسألة إذا معلومة ومرتبطة أصلا بالمصلحة الأميركية وسياسة إداراتها خلال العقود الستة الماضية. واشنطن مثلا كانت تعترض على الانقلابات العسكرية وتدعمها سرا وتعزز دورها حتى تقمع وتقتلع طموحات الأجيال الصاعدة. وهي أيضا كانت تعتمد سياسة تسليح متوسطة ومكلفة وتعطل قيام مشروعات اقتصادية منتجة بذريعة أنها تستنزف الثروات والاحتياطات النقدية. والأمثلة كثيرة في السياق المذكور ويمكن تعداد عشرات المشروعات المنتجة التي تساعد على نوع من الاكتفاء الذاتي (القمح والحبوب) أو نسبة محددة من الاستقلال الاقتصادي اعترضت الإدارات الأميركية عليها وأفشلتها أو نصحت بالإقلاع عنها بذريعة أنها مكلفة ماليا.
هذه السياسة التي اعتمدتها واشنطن خلال النصف الثاني من القرن الماضي تعتبر من الثوابت الاستراتيجية في التعامل مع قضايا المنطقة أو مشروعات التنمية. لذلك إن دهشة تشيني واستغرابه عدم قيام «دولة» يأتيان في سياق التهرب من المسئولية وتحميل الأطراف العربية والفلسطينية نتائج الفشل. فمثل هذه السياسة ليست جديدة وليس هناك من جديد فيها حتى تصدق المنطقة كلام تشيني وذرائعه بشأن تأخر قيام «الدولة الفلسطينية». فالتأخر ينسجم مع تلك الاستراتيجية الأميركية التي اعتمدت في السنوات الأخيرة نهج التقويض والتحطيم والتفكيك المباشر من أفغانستان (وباكستان لاحقا) والعراق ولبنان وأيضا فلسطين. وهذا النهج الذي اتبع في عهد بوش يؤكد أن استراتيجية الولايات المتحدة لا تقوم على سياسة المساعدة على التنمية والتطوير وتأسيس نماذج (دول) عادلة وإنما هي تخطط لمنع نهوض مشروعات منتجة تتكفل بالتنمية والتطوير وتأمين الحد الأدنى من الاستقلال الاقتصادي وكذلك تعمد إلى تقويض الدول وتفكيكها إلى قبائل وطوائف وضرب البنى التحتية؛ حتى لا تنهض مؤسسات توحّد المصالح والمشاعر والعصبيات الأهلية.
استغراب تشيني عدم قيام دولة فلسطينية حركة سياسية غير ذكية وتحتاج إلى كمية هائلة من الغباء لتصديقها أو تقبلها من دون مطالعات نقدية ومراجعات لتاريخ طويل من الأكاذيب
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2027 - الإثنين 24 مارس 2008م الموافق 16 ربيع الاول 1429هـ