أطنان من الكلام... تعمل عملها في فقدان أي نظام لتوازنه... سواء كان نظام الكلام نفسه حتى الأنظمة التي من المقرر أن يكون دورها تثبيت حال من الالتزام بنظم وقوانين تعمل عملها في جعل الحياة أكثر يسرا وقابلية لأن تعاش ويحتفى بها.
في الكلام العربي أكثر من فرصة للوقوف على طبيعة إنسانية كان دورها بالأمس يتحدد في تقديم الأمة... الجماعة... الفرد إلى الآخر... وتقديم ما يؤمن به وما يحلم أن تكون عليه علاقاته بذلك الآخر. أما اليوم فالوظيفة التبست لأكثر من اعتبار، أو لنقل تشعبت لأكثر من اعتبار أيضا. ربما أهم تلك الاعتبارات نزوع الجماعات العربية اليومية إلى استبدال فعل الإنجاز بفعل الكلام؛ مما يكشف عن مأزق وجودي وحياتي على أكثر من مستوى، ولم يتأتَ ذلك الاستبدال إلا مع وصول الطغيان إلى مرحلة بات معها ضرورة لا يمكن للدولة أن تستتب، ولا للمواطن أن يقر أو يراكم ولاءه من دونه - أي من دون الطغيان- وهو طغيان ليس بالضرورة أن يكون محصورا في إمساك السلطة بعصب القوة والأمن والملاحقة، اذ يمكن لذلك الطغيان أن يتسرب في عدد من مفاعيل الحياة العامة، ومؤسساتها بدءا من التربوية منها (الأسرة أنموذج صارخ)، وليس انتهاء بالمؤسسات الدينية التي تقوم في كثير من بنيتها على ملكة الكلام... الخطابة، وإدارة شئون الأمة المنتخبة بوقود كلامي له استرجاعاته وإسقاطاته التاريخية التي ليست بالضرورة على وفاق أو اتساق مع اللحظة الراهنة عدا التفكير في ربط التوافق والاتساق بحركة المستقبل.
أطنان من الكلام... وفراغ بحجم الوحشة!
مُدن ومُدن
المدينة بشوارعها، بلصوصها، بنسائها، بأسرارها وفضائحها، بتجارها ومتسوليها، بمصارفها، ومجاريها! بأعمدة إنارتها، وأعمدة صحفها، وأعمدة نظامها! بالطامحين فيها والممعنين في اليأس، بطائفييها، الذين على النقيض كمن يحرثون البحر، بمفكريها ودجّاليها، بعوزها، وإسرافها.
ثمة شعور يكاد يكون حاضرا كلما برزت المدينة، يلقي في روعك فكرة/ حقيقة أنها هناك في مكامنها تتأهب لاغتيالك، أو لاستدراجك الى غوايات لن تخرج منها بأي حس من اللذة او الانتصار. لكأنها تختزن «ملامح» الغرباء، والباحثين عن فرص عادلة؛ كي تتمكن من افتراس «أحلامهم» وإدخالهم في حال من الصدمات التي لن تنتهي وإن ولوا الأدبار، وفروا بما تبقى منهم.
في تاريخ المدن، وإلى يومنا هذا لا ينكر أنها قامت أولا على خلق بُنى ومشروعات تكرّس مبدأ الاستقرار، ولكن أولى خطوات الطريق الى ذلك الاستقرار، هو البدء بحفلات من التهجير، والمصادرة، وأحيانا الإغراءات التي تكرّس واقع هيمنتها وسيطرتها على مصائر الناس. الطرق تمتد والبنايات الشاهقة ترتفع، وتتقلص الرقعة الخضراء من دون أن تستأذن أي أحد في كل ذلك!
***
لا يوجد مصطلح غائم وزئبقي ومتلون مثل مصطلح العروبة... فتارة هي عروبة دكاكين الأحزاب التي تجاوز الدهر منطقها وخطابها، وتارة ثانية عروبة أنظمة متأمركة من الرأس حتى أخمص القدم، وتارة ثالثة عروبة نخبة مازالت هائمة وتائهة في مساحات شاسعة من الحنين المَرَضي، وتارة رابعة عروبة جنرالات في أزياء ايف سان لوران، وفيرشاسي، يستدعون كل مخزون وتراث القمع الذي أسس له جنرالات بعمائم وجلابيب، وتارة خامسة عروبة سماسرة يزكّون أموالهم بيد، وينهبون الأمة بيد أخرى، وتارة سادسة عروبة مثقفين أبسط الملاحظات عليهم أنهم ينظرون بعينين: عين ساخطة على السلطة، وعين أخرى على السلطة نفسها، ورحم الله شعوبا شاء القدر والتاريخ والمصادفة أن يكونوا تحت رحمتهم
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 2027 - الإثنين 24 مارس 2008م الموافق 16 ربيع الاول 1429هـ