العدد 2026 - الأحد 23 مارس 2008م الموافق 15 ربيع الاول 1429هـ

الصعود المذهل للقومية الإثنية في عصر العولمة!

خالد المطوع comments [at] alwasatnews.com

على العكس من الخطاب العصري السائد الذي يشير بحزم إلى أنه وفي عصر العولمة الرأسمالية الأنجلوساكسونية تضمحل أدوار القوميات الإثنية والانتماءات الثقافية الأولية في التحكم مصيريا في مسارات المشهد الاجتماعي والسياسي والاقتصادي العام ولذلك لحساب بروز القيم الليبرالية الغربية المعولمة في مختلف الميادين، فإن بروفيسور التاريخ في الجامعة الكاثوليكية بالولايات المتحدة الأميركية، جيري مولر ومن خلال مقال بحثي طويل بعنوان «نحن وهم ... القوة الراسخة للقومية الإثنية» كان قد نشره في مجلة «فورين أفيرز» الأميركية يتبنى تصورا مغايرا بحدية لعموميات التصورات العولمية السائدة مفاده أن القوميات الإثنية ما زال دورها فاعلا جدا في صوغ السياسات والاستراتيجيات العالمية وفي تحديد المصائر ومن المرجح أن يتواصل هذا الدور القيادي مستقبلا لأجيال قادمة.

كما أنه في الوقت ذاته يقدم مقاربة ضدية لقراءة التاريخ يأمل من خلالها تسليط الضوء على ما لعبه العامل القومي الإثني في دور مفصلي في صياغة العديد من الخرائط السياسية التاريخية في مختلف أنحاء العالم، وخصوصا في أوروبا، الذي تم تهميشه كثيرا من قبل المؤرخين والباحثين التاريخيين.

يشير مولر في بدايات مقاله إلى الهواجس الأوروبية المتراكمة سلبا تجاه القومية الإثنية لكونها تسببت في حدوث حربين عالميتين مدمرتين هما الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية، وهو ما أدى بالتالي إلى استبعادها من قوائم الحلول والبدائل المطروحة أوروبيا لكونها تشكل أكبر تراجع عن مبادئ الديمقراطية الليبرالية المسالمة، ومثل تلك الحساسية الأوروبية المفارقة تأتي في الوقت الذي لعبت فيه عوامل القومية الإثنية أدوارا إيجابية مصيرية ساهمت في تثبيت دعائم الأمن والاستقرار خلال مراحل تاريخية معاصرة عديدة ومنها مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية ومرحلة الحرب الباردة.

ففي أعقاب الحرب العالمية الثانية اتفق رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل والزعيم السوفييتي جوزيف ستالين والرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت على أن إجلاء أصحاب الانتماءات القومية الألمانية من الدول التي لا تتبنى القومية الألمانية هو بمثابة شرط أساسي لتحقيق الاستقرار في مرحلة ما بعد الحرب، وقد قال حينها تشرشل في خطاب له أمام البرلمان البريطاني في أواخر العام 1944 :»لن يكون هنالك خليط من الشعوب لخلق المزيد من المشاكل والأزمات، وإنما سيكون هنالك إجلاء نظيف»،كما أن إجماع الحلفاء المنتصرين في أعقاب نهاية الحرب رافقته عمليات تهجير جماعية تمت في ما بين 1945 و 1947 لأصحاب القومية الألمانية من قبل أنظمة تشيكوسلوفاكيا والمجر وبولندا ويوغوسلافيا التي اتهمتهم بالتواطؤ مع النازيين، حيث لقي مئات الآلاف من المهجرين الألمان حتفهم أثناء الطريق في ما اعتبر أكبر عملية إجلاء قسري للسكان في التاريح الأوروبي.

وقد استمرت في أوروبا عمليات تكون وتأسيس الدول على أسس القومية الإثنية في مرحلة الحرب الباردة فيما عدا ثلاث حالات استثنائية مثلتها تشيكوسلوفاكيا ويوغوسلافيا والاتحاد السوفييتي التي ما لبثت جميعا إلا وتففكت إلى جمهوريات ذات قواعد قومية إثنية بعد سقوط الاتحاد السوفيتي.

ومن خلال مقارنة مسحية بين حال الكيانات السياسية الأوربية في عام 1900م وحتى عام 2007 يستنتج البروفيسور مولر أنه وفي عام 1900 م كانت توجد هنالك العديد من الكيانات الأوربية ذات القوميات المتعددة، وقد تغير الوضع كثيرا في العام 2007، إذ أنه لا يوجد سوى كيانان سياسيان أوروبيان يتمتعان بتعددية قومية وهما بلجيكا وسويسرا، وبالتالي لم يخبُ أبدا وهج مشاريع الانفصال القومية والإثنية في أوروبا!

وبالعودة إلى زمن الإمبراطوريات المترامية الأطراف كإمبراطورية الهابسبرغ وإمبراطورية رومانوف والإمبراطورية العثمانية في أوروبا، فإن المؤلف وفي الوقت الذي ينبه من خلاله إلى الأدوار اللامعة والمتميزة التي لعبتها جماعات قومية وإثنية ودينية محددة على صعيد التجارة والاقتصاد فإنه هناك فاصل قومي وإثني بينها وبين الجماعات الكبرى الممتهنة أعمال الرعي والفلاحة ذات الانتماءات القومية الإثنية المختلفة والتي دفعها وضعها المتراجع مستقبلا إلى المطالبة والسعي ناحية الانفصال والاستقلال على أسس قومية إثنية تتيح لها ممارسة الوظائف والأدوار التي لم تكن لها متاحة والتي تتعرض فيها لمنافسة شديدة من النخب القوميات الإثنية المختلفة والبارزة في تلك المجالات.

وقد ضرب مولر حول ذلك أمثلة بروز الألمان واليهود في مجالات التجارة في عهدي إمبراطورية الهابسبرغ ورومانوف، في حين برز الأرمن واليونانيين واليهود في ذات المجال داخل الإمبراطورية العثمانية، وفي حين كانت هنالك جماعات وشعوب كبرى مرتبطة بالفلاحة كالأوكرانيين والتشيك والسلوفاك والبولنديين دفعها الواقع المفروز قوميا وإثنيا إلى أن تطالب بكيانها المستقل ليتسنى لها القيام بمختلف الأدوار والمهن المحتكرة من قبل قوميات وإثنيات أخرى في تخوم الإمبراطورية الكبرى.

ويستشهد مولر برؤية المفكر إيرنست غيلنر لصعود القومية الإثنية على اعتبار أنها لا تمثل غلطات تاريخية بل هي أعمق لحظات الحداثة، حيث تدفع المنافسة العسكرية بين البلدان إلى زيادة الطلب على موارد الدولة وزيادة النمو الاقتصادي، حيث يعتمد العامل الأخير على سرعة الاتصالات وازدهار أدوات التواصل والاطلاع والكتابة الأمر الذي يدفع صناع القرار إلى الدفع نحو تشجيع التعليم وتبني لغة قومية مشتركة وهو ما يحرض حتميا على المزيد من الجدال والصراع على الفرص القومية والإثنية المتنافرة حول ذلك!

كما ويسلط المؤلف الضوء على ملاحظة هامة تتعلق ببروز دور رأس المال الثقافي المحدد وما يحتويه من قيم وسلوكيات ثقافية في جذب واستقطاب الفرص الاقتصادية المثلى المتاحة في عصر الرأسمالية ومبادئ التجارة الحرة، والذي يفوق بكثير دور المهارات والقدرات المعينة من ناحية التأثير على الوضعية الاقتصادية للفرد والجماعة، فالمؤلف يرى أنه ومع زيادة الوعي القومي والنزوحات القومية في المشهد العالمي فإن أولى ثمار العولمة الاقتصادية سيتناولها أصحاب المقام والمكانة الثقافية والتاريخية الأبرز بين نظرائهم كما أشارت التجارب إلى حتميات ذلك ومآلاته في مختلف السياقات.

ويستعرض مولر واقع سياسات الهجرة والتوطين التي تتبناها العديد من الدول ذات الأنظمة السياسية المختلفة مثل أرمينيا وبلغاريا والصين وكرواتيا وفنلندا وألمانيا والمجر وأيرلندا وإسرائيل وصربيا وتركيا، والتي تعمد جميعها إلى تشجيع الشتات العالمي «الدياسبورا» لأصحاب القومية والإثنية المنتمية أصلا إلى ذات القومية والإثنية المهيمنة في الكيانات الأم، وذلك بغرض تسهيل عمليات توطينهم في بلدهم الأم والتمتع بمزايا المواطنة قبل غيرهم من أصحاب قوميات وإثنيات أخرى، وفي صعد أخرى هناك تشدد وحساسية تجاه هجرة الآسيويين والأفارقة والمسلمون إلى مجتمعات لطالما فخرت بتعدديتها الثقافية وعلمانيتها كالمملكة المتحدة، فبحسب المؤلف هناك العديد في النصوص الدستورية وفي خطابات قادة البلدان المتفاخرة بجذورها العلمانية وتعدديتها الثقافية ما يشير إلى الاعتزاز القومي والإثني، ففي النصوص الفرنسية المؤسسة ورد التالي: «أسلافنا (الغال)»، ورئيس الوزراء البريطاني الأسبق السير وينستون تشرشل حينما قال مخاطبا الجماهير في أيام الحرب: «عِرق هذه الجزيرة»!

وما أن اطلعت على قول المؤلف بشأن دور القومية الموحدة المكفولة بأنظمة مواطنة لا تنتقص من حقوق الأقليات الأخرى، وما لعبته من دور تاريخي بارز في إرساء الأمن والاستقرار في مختلف الكيانات السياسية، حتى انتباني هاجس العراق الكارثي وما آلت إليه الأوضاع عقب تخاذل أنظمة الغنيمة العربية وعروش البؤس الراهن عن احتضانه بدلا من تركه لوحده في أحضان الاحتلال الأميركي الذي لم يتردد في تركه متاعا رحراحا لأزلام الصهيونية العالمية وأزلام طهران وأزلام طالبان وغيرها من أطراف ضالعة بقوة في المأساة العراقية الحالية وإن اختلفت المساحات والمواقف المبدئية بين بعضها البعض، فانتزع العراق وانتزعت مع عروبته وسيادته وحصنه الحصين وبات في أسوأ أحواله حقل ألغام وقنابل طائفية يصل مداها التشطيري إلى دول المنطقة، فلا مشروع دولة حديثة ولا يحزنون وإنما شظايا مأساة مفككة تتناهبها ذئاب وضباع الطائفية السياسية الداعرة!

إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"

العدد 2026 - الأحد 23 مارس 2008م الموافق 15 ربيع الاول 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً