في خطابه عن الذكرى الخامسة لغزو العراق أصر الرئيس الأميركي جورج بوش على مواصلة الحرب «على الإرهاب» حتى تحقيق النصر. فالرئيس الأميركي الذي دخل عامه الأخير من عهده لايزال يتمسك بقراره وما أنتجه من كوارث في العراق وعلى المنطقة. ويبدو أن بوش ليس في وارد إعادة قراءة ما حصل من تدمير وتقويض وتقطيع أوصال بلاد الرافدين، وهو يفضل ترك المسألة للتاريخ.
التاريخ سيتكفل بتقديم الجواب النهائي. وبما أن الزمن طويل فيرجح أن تبقى القراءات تتأرجح بين السلبيات والإيجابيات مادامت الإدارة الأميركية تكذب ولا تبوح بالحقيقة وترد على السؤال: لماذا فعلا قررت واشنطن غزو العراق؟
حتى الآن لا تعطي إدارة البيت الأبيض الإجابة الصريحة. فهي بدأت بالقول إنها تريد تغيير النظام لعوامل ثلاثة: إنتاجه سلاح الدمار الشامل، علاقته بتنظيم «القاعدة» المتهم بهجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001، وأخيرا معاقبته على استبداده وتهديده دول الجوار.
هذه الذرائع الثلاث تساقطت. التحقيقات كشفت أن النظام تخلص من اسلحة الدمار الشامل في العام 1991 ولم يعاود الكرة ثانية. والمعلومات التي توضحت لاحقا كشفت عن لا علاقة تربط النظام بهجمات 11 سبتمبر وتنظيم «القاعدة». وأخيرا وهذا الأمر الأسوأ جاء «البديل» الذي تبوأ السلطة ليقدم صورة سيئة عن نموذج مفروض بالقوة من الخارج. فالنظام التابع القائم الآن في بغداد يعتبر الأسوأ في كل المعايير إذ احتل درجات عالية في الفساد والسرقة والتهريب والفوضى والقتل المجاني والتمييز والتفكيك والنهب.
لماذا إذا يصر بوش على رفض المكاشفة والتهرب من قول الحقيقة والإجابة عن السؤال: لماذا اتخذ قرار الحرب؟
الإجابة عن السؤال توضح الجوانب الخفية وتلقي الضوء على الأهداف الحقيقية التي دفعت الإدارة الأميركية إلى المغامرة والذهاب إلى بلاد الرافدين على رغم كل الاعتراضات التي واجهتها دوليا وإقليميا وعربيا.
الجوانب المجهولة من الصورة ستبقى كذلك إلى أن يأتي اليوم ويكشفها التاريخ للعالم. حتى يأتي ذاك اليوم فستبقى الترجيحات تتقلب يسرة ويمنة وبالتالي ستتوالى القراءات السلبية والإيجابية من دون أن تستقر على إجابات موحدة وقاطعة أو ناضجة في استنتاجاتها.
هناك «أسرار» موضوعة في صناديق الحديد. ولكن الوقائع تشير إلى مجموعة عناصر محركة فضلا عن أهداف متوقعة. وهذه الوقائع التي ارتسمت خطوطها ميدانيا على أرض العراق ومحيطه بدأت تكشف الدوافع الحقيقية التي أملت على الإدارة المغامرة واتخاذ قرار الغزو.
الحوافز كثيرة منها الايديولوجي (تصدير النموذج الأميركي) ومنها الاقتصادي (تحالف اسواق المال مع شركات الطاقة ومؤسسات التصنيع الحربي) ومنها الدولي (السيطرة على أوراسيا التي تعتبر وسط العالم) ومنها الجغرافيا السياسية (حقول النفط وخطوط الإمدادات والإمساك بالطرقات التجارية) ومنها الأمن الاستراتيجي (حماية خطوط النفط وموقع «إسرائيل» ودورها في المنطقة العربية الإسلامية).
كل هذه الحوافز يمكن جمعها في برنامج من الأهداف غير المعلنة ولكنها تعتبر في مجموعها العام تشكل تلك الدوافع الحقيقية التي أملت على الإدارة اتخاذ قرار الحرب. وفي رأي الطاقم السياسي الذي يدير البيت الأبيض أن الغايات الكبيرة تبرر الوسائل الصغيرة. فالوسائل رخيصة الكلفة مقابل هذه المكاسب التي كانت متوقعة أو التي تم تنفيذها حتى الآن.
كلفة الحرب (موازنات الدفاع) ليست مهمة سواء تجاوزت التريليون دولار (الف مليار) أو كانت أقل من ذلك. فالكلفة في النهاية تشغل آلاف مصانع الأسلحة وتشجع المؤسسات الحربية على تطوير ادواتها وخططها. والكلفة البشرية (قتلى الجيش) ليست مهمة مادامت الإدارة قادرة على ضبط الأرقام تحت سقف تستطيع تحمله (ألف قتيل سنويا). فهذا النزيف البشري في رأي بوش لا قيمة له إذا قيس بمقدار المردود المادي والاستراتيجي الذي سيوفره احتلال العراق.
الأرباح التجارية
المشكلة عند إدارة بوش لا تختصر في إنفاق المال وإسقاط الضحايا باعتبار أن الحروب مكلفة اقتصاديا وبشريا ولكنها مربحة تجاريا؛ لكونها تشكل مادة الوقود التي تتولد منها الطاقة لتشغيل الحركة وتعزيز القوة وترسيخ التفوق الأميركي على العالم.
تحت هذا السقف الايديولوجي (المردود التجاري) يقرأ بوش نظرية الحرب على العراق. ولهذا السبب يصر على مواصلة الحرب حتى تحقيق النصر. فهو يرى أن مجال الفوز لايزال واردا مادامت النتائج الكلية لم تستقر على أرقام نهائية وتصورات أخيرة. فالحرب في رأيه مفتوحة وهي مرشحة للتمديد والتطويل وإعادة التشكيل لأن هدفها كما يقول «مكافحة الارهاب». وبما أن «الارهاب» لا شكل له ولا لون ولا رائحة وإنما هو مزيج من الأشكال والألوان والروائح فبالتالي ستتحول الحرب على هذا «المجهول» الهوية والعنوان والاسم إلى ممارسة دائمة لا تتوقف على فعل واحد.
«الحرب على الارهاب» تشكل ورقة قوية تتلاعب بها إدارة بوش داخليا للتخويف وخارجيا للتبرير. ويرجح أن تبقى الورقة المذكورة مرشحة للتجاذب السياسي الأميركي إلى نهاية عهد الإدارة الحالية وقد تمتد لترمي بثقلها على البيت الأبيض في المرحلة المقبلة.
مكافحة «الارهاب» باتت تشكل المدخل الرئيسي للدفاع عن حرب غير عادلة وتفتقد لكل المبررات المشروعة. ومثل هذه «الجوهرة» تعتمد كثيرا على أسواق الانترنت وما تبثه الأشرطة من تصريحات نارية وتهديدات بخارية حتى تحافظ على قيمتها الايديولوجية للتغطية على حرب أدت حتى الآن إلى اقتلاع العراق من جذور هويته وأخرجته من المعادلة العربية ورفعت عن أمن «إسرائيل» مخاوف مفتعلة من قوة بلاد الرافدين الصاروخية والكيماوية.
شطب العراق من الخريطة العربية وتشطيره إلى دويلات طائفية ومناطقية ومذهبية تديرها حكومة من النهابين والسرّاق والفاسدين تعتبر نقطة حيوية أنجزتها إدارة بوش تحت ذريعة مكافحة «الارهاب» وملاحقته في طول البلاد العربية والإسلامية وعرضها.
هذه النقطة التي لا تأتي خطابات بوش على ذكرها تشكل مهمة اساسية في استراتيجية التقويض الأميركية وما انتجته من «فوضى خلاقة» تهدد المنطقة بعدم الاستقرار والزعزعة والهدم.
النقطة هذه يمكن عطفها على ثلاث: الأولى، ضمان أمن «إسرائيل» تحت سقف مظلة عسكرية أميركية انتشرت في المنطقة والبحار والمحيطات المجاورة. الثانية، ضمان أمن النفط واكتساب شركات الطاقة الأميركية حصة الأسد من ارباح التنقيب والنقل والإمداد والتكرير والتوزيع والتوظيف وإعادة الاستثمار وتطوير صناديق الادخار وشراء سندات الخزينة وتمويل أسواق البورصة وضخ الرساميل (مليارات الدولارات) في عجلات الاقتصاد. الثالثة، تخويف دول المنطقة بصعود قوة اقليمية جديدة تلعب دور «فزاعة» تهدد أمنها واستقرارها من خلال سريان نفوذ مشروع مذهبي قد يقوض الخريطة السياسية السكانية ويبعثرها إلى كيانات طائفية وأقوامية ومناطقية على غرار «نموذج العراق».
احتلال بلاد الرافدين من وجهة نظر إدارة بوش ليس سيئا كله. فهو فشل في جانب حين عجزت واشنطن عن تطوير الفوز العسكري إلى انتصار سياسي كاسح وساحق. وهو نجح في جانب حين قوّض دولة عربية واعدة واقتلعها من الخريطة والمعادلة وأسس مكانها «دويلات» تتنافس على النهب والسرقة والتعامل مع أميركا وربما تحولت في المستقبل إلى «نموذج» يحتذى في دول الجوار والمحيط العربي الإسلامي.
هذا الجانب من النجاح يتوقع أن يراهن عليه بوش حتى الشهور الأخيرة من عهده انطلاقا من نظرية «مكافحة الارهاب» التي تشكل مادة حيوية للتخويف وتعزيز معسكرات الانقسام المذهبي والطائفي في منطقة خصبة بالطوائف والمذاهب وغنية بالنفط والثروات والمعادن وتتميز بموقعها الجغرافي/ الاستراتيجي على خطوط المواصلات والإمدادات في وسط أوراسيا (أوروبا وآسيا).
كل هذه النتائج الميدانية التي اسفرت عنها حرب التقويض الأميركية تفسر تلك الأسباب الخفية التي تقف وراء اصرار بوش في خطابه على مواصلة «مكافحة الارهاب» وعدم التراجع قبل تحقيق الانتصار. وفي رأي إدارة واشنطن ان هذه الورقة غير خاضعة للمساومة أو لإعادة مراجعة ملف الحرب. فالحرب التي قرر خوضها وقعت قبل خمس سنوات أما مسألة تقييم نتائجها فتركها لحكم التاريخ.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2022 - الأربعاء 19 مارس 2008م الموافق 11 ربيع الاول 1429هـ