اعتاد المسلمون في احتفالاتهم بذكرى المولد النبوي أيا كانت أشكال وتلاوين ذلك الاحتفال من إقامة الموالد النبوية والطقوس الاحتفائية الجميلة بهذه الرسالة النبوية الخالدة والتي تعكس تنوّعا ثقافيا وحضاريا أخاذا في ربوع العالم العربي والإسلامي ومختلف أقطار العالم والقرية الكونية، وهناك مَنْ يستند إلى «محاذير شرعية» تبطل شرعية الاحتفال بذكرى المولد النبوي الأساسي، ويكتفي بإقامة الندوات والمحاضرات والحلقات الشرعية في المساجد؛ ليستحضر بها الشمائل والمعجزات المحمدية ويدقّ في جبين الأمّة مواقف نبوية مشرقة من حسن الانسجام والاختلاف وحسن التلقي والاستجابة، وهناك الكثير من القوافي الجميلة المستذكرة والمأخوذة بقوّة في ذكرى ولادة الهدى كالقصيدة الرائعة»نهج البردة» ل» أمير الشعراء» أحمد شوقي التي كتبها وأجزل فيها:
وُلد الهدى فالكائنات ضياءُ
وفم الزمان تبسّمٌ وثناءُ
والروحُ والملأُ الملائكُ حولهُ
للدين والدنيا به بشراءُ
وهناك بردة البوصيري ومنها:
هو الحبيب الذي تُرجى شفاعتُه
لكلّ هولٍ من الأهوال مقتحمُ
دعا إلى الله فالمستمسكون به
مستمسكون بحبلٍ غير منفصم
فاق النبيين في خلقٍ وفي خُلُقٍ
ولم يدانوه في علمٍ ولا كرم
وكلّهم من رسول الله ملتمسٌ
غرفا من البحر أو رشفا من الديمِ
ورغم كلّ ذلك الاحتداد والاصطدام والتنافس بين مختلف الفرق والجماعات الإسلامية في الاحتفال والاحتفاء بذكرى مولد الرسول الأعظم وإقامة السباق نحو الاستحمام بمعين الفضائل وإنْ أدّى وأودى «المولد النبوي» بالجميع إلى حرب لهتك الأعراض ونهش الكرامات بين مختلف الفرقاء!
ولكنني ورغم كلّ ذلك القدر من العار المكفول بالفضيلة لا أدري لماذا لا يقترح أيّ من الفرقاء المتقاتلين على خبز أعراضهم وشرفهم وكراماتهم فداء لذكرى المولد النبوي على بعضهم بعضا لو أنهم اتّحدوا واتحدنا معا على وضع حد لذلك التطاعن والتنابز والتجريح والإخراج من الملة، ولن يكن ذلك إلاّ بأنْ نقدم لرسول الله (ص) في ذكرى يوم مولده أعظم اعتذار بكلّ ما في الكلمة من فحوى!
فإن كانا وكانوا وكنا شهدنا جميعا وشهد قبلها آباؤنا وأجدادنا وأجداد الأجداد نماذج عديدة لا حصر لها من الإساءة إلى رسول الله (ص) وتشويه اسمه ورسالته وصورته، ابتداء من الإساءة الدنماركية والهولندية الأخيرة وحتى الإساءة السويدية وإساءة الكاتبة الصحافية الإيطالية أوريانا فالاتشي وإساءات المستشرقين وإساءات قادة «الاستعمار الكولونيالي الغربي» وقادة «الاستحمار» وإساءة المفكّر الفرنسي فولتير في مسرحيته «ماهوميت» التي ركزت على وصف خاتم الأنبياء والمرسلين وأشرف الخلق أجمعين بمختلف صفات البربرية والتوحش والتخلف، وحتى إساءات كفار ومشركي قريش. إلا أنه ورغم كل ذلك الركام التراثي الهائل من الإساءة إلى الرسول الأعظم (ص) إلا أنني مازلت موقنا بأن أعظم الإساءات التي وجهت إليه وإلى رسالته الخالدة وهديه القويم لم تكن إلا إساءة أبناء أمته إليه، وهي الإساءة الأقل حضارية من بين سائر تراث الإساءات!
وإنْ كانوا هم لا يقيمون لشريعة الاختلاف وزنا، ولا يكادوا أنْ يحدثوا فرقا بين الاختلاف والخلاف فنرجو أنْ لا يسقط إخوتنا من حساباتهم رسالة وحلم ومبادرة الاعتذار إلى رسول الله (ص) في ذكرى مولده، فلا أعتقد أنّ تراث التخليد وتراث التغنّي بأمجاد العقيدة والفضيلة والهداية ستعادل شجاعة ساعة اعتذار صريحة توجّه إلى مقام النبي (ص) في يوم مولده. ومهما يكن مبلغ الحقد والغل والكراهية وحجم الجهل وانعدام البصيرة والوعي والانصياع لمتوارثات من النفور والاشمئزاز العنصري فمثقال جميعها لن يعلو ولن يعادل كفة مثقال إساءات المحبين والعارفين والمتبصرين والمتدبرين التي وجهت إلى هديه ورسالته من أبناء أمته!
لطالما كانت إساءاتهم توحّدنا وإساءاتنا تشتتنا وتفرقنا وتطيح بكرامتنا وكرامة الرسالة النبوية الخالدة، فلا أظن أنّ تلك الدماء والآهات المريعة لضحايا الحروب الطائفية الوحشية التي أدمن أبناء أمّة محمّد (ص) على ارتكابها ضد بعضهم بعضا هي دماء ستعجز عن إخفاء ومحو دماء وعذابات شهداء بدر وأحد وتبوك!
أو أنْ يكون ما خلفته تلك الصنيعة السياسية والعلكة الشرعية الاصطناعية «فقه طاعة ولي الأمر» التي طارَ لونها وتبددت نكهتها بعد أنْ قمعت المظالم وشاركت في استحلال المحارم الكبرى للإنسان قد أبقى شيئا من الهدي والفضيلة في مأمن واطمئنان حينما يتلاعبون بالدين ويقولون أطع ولي الأمر وحتى لو أخذ مالك وجلد ظهرك، وفي السياق ذاته تراهم يرددون أنه لا تجوز طاعة ولي الأمر في معصية الله وكأنما أخْذ المال وجلْد الظهر وإيقاع الظلم ليس من معصية الله في شيء، وكأنما هم بذلك ينقضون عصمة النبي (ص) ويشركوها بعصمة أولي الأمر منهم!
وهناك الألعن من ذلك بأشواط ممن استباح واستحل عرض وشرف الرسالة النبوية حينما حوّلها له ولأتباعه وزمرته سقط متاع سياسي يتاجر بما يتحصله من خلال تمريغها في تراب المصائب والخيبات والفجائع من مكاسب سياسية ومتاجرات بالوطن والدين وبكلمات الجماعات والأفراد!
وإنْ كان بعض الإخوة من نواب البرلمان البحريني الأفاضل قد عزموا على تشكيل لجنة لبحث قضية الإساءة الدنماركية إلى الرسول فإننا ندعوهم نحن إلى صف واحد للاعتذار عن الإساءة الأممية المتعاقبة لرسول الهداية والرحمة وذلك في زمن الفتن، وأشد فتنة الأشد حلكة من قطع الليل المظلم هي فتن «الهداية» و»البصيرة» و»الإتقان في دروب التقوى والإيمان» و»الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»!
كما أدعو أحد الزملاء الأفاضل للانضمام إلى موكب المعتذرين إلى رسول الله (ص) بعد أن أساء إليه حينما حرّض الجهات الرسمية واستغل بانتهازية فاقعة تهمة للإساءة إلى الرسول موجّهة تجاه إحدى الصحف الزميلة، وذلك على أمل المساهمة في أنْ يعمل هذا التحريض لدى مؤسسات الدولة كحائط صد ومواجهة ضد ما تنشره الصحيفة الزميلة من مخالفات وفضائح فساد واستغلال للمناصب قد تورّط بها أبناء وإخوة تياره الدينوسياسي الذي ينتمي إليه، فهل أصبح رسول الله (ص) أداة محبذة ومدرجة في تصفية الحسابات السياسية، وهل ذلك من أدب الاختلاف والاستجابة والمواجهة في شيء؟!
فمتى سنراك يا حبيبنا يا رسول الله (ص)، حتى نعتذر إليك ونقر لك بذنوبنا وذنوب آبائنا وذنوب أجدادنا عسى أن نكون طلقاء في رحمة الله رغم الحجم القياسي الهائل لإساءاتنا في حقك؟
إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"العدد 2022 - الأربعاء 19 مارس 2008م الموافق 11 ربيع الاول 1429هـ