يروى عن الزعيم السياسي المصري سعد زغلول أنه قال لزوجته حين كان على فراش الموت «غطيني ياصفية. مافيش فايده». وغاب زغلول عن الدنيا خائب الظن بعد أن راهن على إمكان نجاح مصر في تجاوز أزماتها السياسية اعتمادا على الدستور. فالزعيم المصري قاد ثورة دستورية ضد الاستعمار البريطاني في العام 1919 ونجح بعد نفي وعذابات من انتزاع وثيقة تعطي الشعب المصري حق الاختيار وتضمن له سيادته وتمنع الأجنبي من التدخل في شئونه.
هذه الثورة الدستورية المصرية التي دخلت التاريخ العربي الحديث وصلت إلى نهايات مقفلة وأنتجت حالات من التمزق السياسي بسبب عدم التزام القوى الحزبية بتلك الوثيقة القانونية التي تضبط التوازن وتنظم عملية تبادل السلطة من دون إكراه أو انقضاض أو انقلاب. اكتشف زغلول بعد فترة من انتزاعه تلك الوثيقة أن الدستور مجرد ورقة لا قيمة لها ولا تتمتع بذاك الاحترام المطلوب حتى تضمن مصر استقرارها ووحدتها واستقلالها.
«مافيش فايده» قالها زغلول لزوجته حين شعر بالبرودة وقبل لحظات من رحيله. فالكلمات تختصر الكثير من زوايا الصورة وتعطي فكرة عن عالم آخر لا علاقة له بالدستور. فالمشكلة التي اكتشفها زغلول لاحقا تتعلق بالبيئة الثقافية والذهنية السياسية والتطور الاجتماعي وبنية العمران البشري وعدم وجود مؤسسات متوارثة تستند عليها المواثيق والمعاهدات والاتفاقات لاحتضان الخلافات واحتواء التحولات واستيعاب المتغيرات. «غطيني ياصفية» كان الرد الأخير إلى انكشاف السياسة على واقع مغاير. فالدستور الذي قاتل من أجله زغلول كان مجرد ورقة والأهم منه ما تحت الدستور. «ما تحت الدستور» له علاقة بالاجتماع والعمران وجاهزية الإنسان على تقبل الآخر والاعتراف بالخطأ والتعامل العقلاني مع الهزيمة والاستعداد للنقد الذاتي والمراجعة وإعادة القراءة. وكل هذه المتطلبات الخلقية اكتشف زغلول أنها غير موجودة في السياسة وبالتالي «مافيش فايده».
خيبة زغلول حصلت في بلد عربي يتمتع تاريخيا بالتماسك وتحتضنه تقليديا محطات حضارية ساهمت في تطور الإنسانية. وهذه الخيبة ليست مصطنعة ولا هي ردة فعل على فشل موضعي وإنما قد تكون نتاج معرفة تبلورت من خلال التجربة والعلاقات اليومية مع الناس ومراكز القوى.
قبل 500 سنة من رحيل زغلول حصل الأمر نفسه مع عبدالرحمن بن خلدون. فهذا الفيلسوف الاجتماعي/ السياسي الكبير مر في تجارب قاسية قبل أن يتوصل إلى تلك القناعة (مافيش فايده). فصاحب «المقدمة» خاض غمار السياسة في بلاد المغرب وتبوأ مناصب عليا في أكثر من ديوان وزاري في مدن وممالك ذاك القطاع من العالم الإسلامي. واكتشف ابن خلدون بالممارسة أن هناك مشكلة تتجاوز طموحات الفرد وتتصل مباشرة بالعمران والآليات التي تتحكم بإدارته. وعلى رغم هذه القناعة «الاجتماعية» التي توصل إليها واصل ابن خلدون مغامراته السياسية فاتهم مرارا بالتآمر على قلب نظام الحكم، واعتقل من دون محاكمة، ولفقت ضده اتهامات كادت أن تقضي عليه... لولا التدخلات التي كانت تأتي لمصلحته وتصفح عنه.
استمر ابن خلدون على حاله مترددا في حسم خياراته بين «السياسة» و «الثقافة». فإذا قبل بالسياسة يجب أن يخضع لشروطها وإذا رفض عليه الاستقالة والانزواء إلى نفسه بعيدا عن السلطة والسلطان. وأدى قلق ابن خلدون إلى تعثره الدائم إلى أن وقع حادث اعتقال صديقه الوزير الشاعر والمفكر والمؤرخ ابن الخطيب.
ابن الخطيب كان من كبار رجال الدولة في عهد بني الأحمر في غرناطة. هذه الإمارة آنذاك كانت الموقع الأخير للحضارة الإسلامية العربية في إسبانيا وأدت انقساماتها ومنازعاتها إلى سقوطها لاحقا. لسبب ما اختلف الأمير مع الوزير (المفكر والمؤرخ) واعتقله من دون تهمة أو محاكمة. وطلب ابن الخطيب مساعدة صديقه ابن خلدون والتوسط مع أمير غرناطة للإفراج عنه. وتوجه المثقف البائس والقلق إلى الأندلس للبحث في مخرج لإنقاذ صديقه وعلم أمير غرناطة بقدومه فأمر بقتل ابن الخطيب قبل وصوله.
علامة فارقة
مقتل ابن الخطيب شكل علامة فارقة في سيرة ابن خلدون فقرر بعد ذاك الحادث الأليم اعتزال السياسة وحسم خياره باتجاه الثقافة. وقفل عائدا إلى الجزائر وتحصن في قلعة مدة خمس سنوات كتب خلالها تاريخه وأنتج تلك «المقدمة» التي هزت أوروبا في لحظة صعودها ونهضتها وهي لاتزال تشكل حتى الآن ذاك الرافد الغزير للفكر السياسي وفلسفة التقدم وصلته بالعمران وتطوره.
حكايات ابن الخطيب وابن خلدون وسعد زغلول تعكس مأزق علاقة السياسة بالثقافة ومدى تقبل السياسي لعبة الاختلاف الثقافي في مقابل مدى احترام المثقف للاختلاف السياسي والالتزام بفكرة تداول السلطة. منذ قتل ابن الخطيب في معتقله إلى لحظة مغادرة سعد زغلول الدنيا هناك معضلة تكوين السلطة في المنطقة العربية الإسلامية. وهذه المشكلة التي يعاد إنتاجها في فضاءات وآفاق وصور ومشاهد ومسارح مختلفة تكشف عن قصور تاريخي في تطور العمران البشري.
حتى الآن لاتزال وجوه ابن الخطيب وابن خلدون وسعد زغلول تمر في المخيلة حين تواجه دول المنطقة تجارب وخيبات وافتراءات وتجاوزات ليست بعيدة عن تلك الوقائع التي كتب عنها وسجلت في ذاكرة التاريخ. مثلا كيف نقرأ ما يحصل في لبنان وشرح سياسة عدم احترام الدستور التي تستقوي أما بالسلطة وأما بالشارع لمنع عملية التداول؟ كيف نقرأ ما يحصل في الكويت حين تستقيل الحكومة وتطالب بحل البرلمان لمجرد وقوع خلاف بين السلطتين التنفيذية والتشريعية؟ كيف نقرأ منع الآلاف من الترشح إلى الانتخابات التشريعية الإيرانية (مجلس الشورى) لمجرد وجود شبهة في الولاء؟ كيف نقرأ مطالبة المدعي العام في تركيا بحل «حزب العدالة والتنمية» ومنع رجاله من ممارسة السياسة بتهمة محاولة «أسلمة الدولة» ومخالفة العلمانية؟ كيف نقرأ منع آلاف المترشحين إلى الانتخابات المحلية في مصر بذريعة الانتماء إلى حركة «الإخوان المسلمين»؟
كل هذه الأمثلة وغيرها بالعشرات تكشف عن معضلة بنيوية (عمرانية) تتصل بتكوين السلطة وأزمة علاقة المثقف بالسياسة أو السياسي بالثقافة. والأمثلة التي يمكن تقديمها على اختلاف بيئاتها تشكل في مجموعها نماذج بائسة عن استحالة التطور السياسي في بلدان مختلفة عمرانيا وغير قادرة على تجاوز موقع العصبية إلى مرتبة «المواطن». والعصبية التي تحدث عنها ابن خلدون في مقدمته يمكن استنساخها وتطويعها على درجات من الولاءات الفسيفسائية المتشكلة من كوكتيل الهويات القبلية والمناطقية والمذهبية والطائفية والاقوامية والحزبية (وربما الايديولوجية). وهي ولاءات تعكس في النهاية مصالح فئوية تنتمي إلى مرحلة ما قبل الدولة أو ما قبل «المواطن». و «ما قبل» لخصها سعد زغلول بصيحته الأخيرة «مافيش فايده» حين اكتشف أن الدستور تحول إلى «خردة» ولا يلقى ذاك الاحترام المتبادل والمطلوب عند وقوع أزمات. العودة إلى الدستور لكونه يشكل تلك المرجعية التي تضمن المصالح وتوحد المشاعر ليست واردة في مجتمعات غامضة الهوية ومتجاذبة في مرجعياتها.
ابن الخطيب اغتيل في المعتقل. ابن خلدون اعتزل السياسة خوفا. وسعد زغلول طلب من زوجته صفية تغطيته حين غزته البرودة. وكل هذه العناوين مجرد جزئيات بسيطة من تاريخ كتب عليه أن يكون ضحية «الخارج» الطامع بالثروات و«الداخل» الطامح بالسلطة ولو أدى النزاع إلى خراب العمران.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2021 - الثلثاء 18 مارس 2008م الموافق 10 ربيع الاول 1429هـ