إذا رصدنا مواقف بلغريف على امتداد السنوات الثلاث من عمر الهيئة (1954 - 1956) فإنه لم يحاول أبدا أن يقنع الحاكم بما له من نفوذ وتأثير كبير عليه بأحقية هذه المطالب بل ولم يحاول أن يجمع الحاكم مع مطالب الهيئة في منتصف الطريق. وفي أحسن الأحوال فإنه دائما ما يستعين بخبراء إنجليز وقيادات محلية هزيلة يجعلها في الواجهة ويحركها من الخلف.
فلإصلاح القضاء عمدت الحكومة باقتراح من بلغريف لتعيين جيوفري بس مستشارا قضائيا بالمحكمة في الفترة ما بين 1954 - 1958 وخلفه ديفيد همغرير والمستشار بلغريف هو رئيس المحكمة المختلطة ويعتبر نفسه خبيرا بالقانون اكتسب خبرته في السودان عندما كان قائدا لإحدى كتائب الهجانة، ويستغرب بلغريف رفض شعب البحرين لتطبيق نظام جزائي بريطاني يطبق على المستعمرات البريطانية.
ويستغرب بلغريف كما عرض هو في مذكراته إضراب العمال البحرينيين، وخصوصا عمال بابكو ومطالبتهم بتحسين أوضاعهم، والسماح لهم بقيام نقابة تمثلهم، كما يستغرب إضراب سيارات الأجرة بفعل الرسوم المرتفعة التي تفرضها شركات التأمين البريطانية وخصوصا نوروج، ويستغرب إضراب شعب البحرين تأييدا للمطالب السياسية التي طرحتها الهيئة. وعندما تضطر الحكومة للتعاطي مع هذه المطالب يلجأ بلغريف إلى التسويف، فلإصدار قانون للعمل، تشكل لجنة يرأسها خبير بريطاني في عملية اجتماعات ماراثونية امتدت من أبريل/ نيسان 1955 حتى أكتوبر/ تشرين الأول 1956، وعلى رغم ذلك جمّد بلغريف قانون العمل المقترح، الذي طبق مبتورا باستثناء حرية العمل النقابي في 1957. ولم يتحمس بلغريف لمبادرة هيئة الاتحاد الوطني بتشكيل صندوق التعويضات وهو صندوق تعاوني لتأمين سيارات الأجرة.
تحت ضغط حركة الشارع الذي تقوده الهيئة وبعد الإضراب الشامل خضعت الحكومة لمطلب تشكيل مجلس الصحة والمعارف (ستة لكل مجلس)، ويكون نصف أعضاء كل مجلس بالانتخاب والنصف الآخر بالتعيين من قبل الحكومة.
ونظرا لشعبية الهيئة فقد انتخب الشعب مرشحي الهيئة، وسقط مرشحو الحكومة، سقوطا مريعا، ولكن بمشورة بلغريف السيئ عهدت الحكومة إلى تعيين الفاشلين في الانتخابات والمحسوبين عليها في كلا المجلسين، وهو ما دفع الهيئة إلى دعوة الأعضاء المنتخبين لمقاطعة المجلسين.
وهكذا أفشل بلغريف تجربة المجالس المختلطة التي كان يمكنها أن تتطور، وتهيئ الأوضاع للمجلس التشريعي المنتخب، لقد جرى تجاهل مطلب الهيئة الرئيسي بإيجاد مجلس تشريعي منتخب. وبدلا عن ذلك عين الحاكم حينها الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة عمه الشيخ عبدالله بن عيسى آل خليفة البالغ من العمر 75 عاما رئيسا لمجلس إداري للبلاد من العائلة الحاكمة في فبراير/ شباط 1956.
ظل بلغريف عدائيا للهيئة التنفيذية، وشجع الحكومة البريطانية ممثلة بالمقيم السياسي في الخليج والمعتمد البريطاني في البحرين، على عدم الاعتراف بها، وحرض الحاكم الشيخ سلمان ضدها وظل يصور له أن الهيئة تنوي الانقلاب عليه والاستئثار بالحكم. لكن الحكومة البريطانية، وبعد أن أدركت عدم إمكانية تجاهل الهيئة، بعد أن أثبتت قدرتها على قيادة شعب البحرين، أوعزت للحاكم بالاعتراف بالهيئة ولكن بشرط تغيير اسمها من الهيئة التنفيذية العليا إلى هيئة الاتحاد الوطني. وهو ما يصفه بلغريف باستخفاف بأن الهيئة التنفيذية العليا توقفت في أبريل 1956 عن ممارسة نشاطاتها وولدت مؤسسة جديدة أسمها هيئة الاتحاد الوطني، عدد أعضائها 7 أفراد جميعهم كانوا بالإدارة السابقة. على رغم أن بلغريف يعرف أن أعضاء الهيئة هم بعشرات الألوف، فإن بلغريف لم يسلم بهزيمته فعمد إلى إقناع الحاكم بتشكيل تنظيم موال هو «هيئة الاتفاق الوطني» من شخصيات لا رصيد شعبي لها لكن رصيدها هو موالاتها المطلقة للإنجليز والحكم.
كان الإنجليز والحكم يتحينون الفرصة للانقضاض على الهيئة وتصفيتها، وهكذا حانت الفرصة عندما حدث العدوان الثلاثي على مصر، وكان طبيعيا أن يتحرك الشارع البحريني كما تحرك الشارع العربي في كل مكان احتجاجا على العدوان والتواطؤ البريطاني الفرنسي مع العدو الصهيوني، ومما ألهب الاحتجاجات في البحرين نزول القوات البريطانية في البحرين ووجود قواعد بريطانية في البحرين، لعبت دورا خلفيا في العدوان والسيطرة البريطانية ممثلا في المقيم السياسي والمعتمد البريطاني والمستشار البريطاني، وممثلا في شركة النفط وغيرها من المؤسسات البريطانية.
لقد أضحى واضحا أن كثيرا من أعمال الشغب والحرق قامت بها عناصر من المخابرات بقيادتهم البريطانية. ووقفت الهيئة بقوة ضد هذه الأعمال واستنكرتها لكن النية كانت مبيتة لاستغلال أية ذريعة لأنها الهيئة وكان بلغريف أول المحرضين لذلك. وهكذا شهد فجر 5 نوفمبر/ تشرين الثاني 1956 حملة القضاء على الهيئة، حيث اعتقلت قياداتها وكوادرها في عملية بقيادة بلغريف ذاته.
ولعب بلغريف دور المدعي العام في المحكمة الصورية لقيادة الهيئة في محكمة ميدانية في البديع يومي 21-22 نوفمبر 1956 بحسب بلغريف، (22-23 ديسمبر/ كانون الأول 1956) بحسب الباكر، وصدرت الأحكام الجائرة بالنفي والسجن ضد قادة الهيئة، وصدّق بلغريف على قرار المحكمة باعتباره مستشار الحاكم ومفوضا عنه.
وبلغريف هو الذي نسق مع الحكومة البريطانية من خلال المقيم السياسي والمعتمد السياسي لنفي قادة الهيئة الثلاثة «عبدالعزيز الشملان، عبدالرحمن الباكر وعبدعلي العليوات» إلى جزيرة سانت هيلانه النائية في شمال المحيط الأطلسي لقضاء محكوميتهم بالسجن لمدة 14 عاما، وهي الجزيرة التي نفي إليها نابليون وسجن فيها حتى موته مسوما.
وكشفت المحاكمة اللاحقة من قبل محكمة بريطانية للقادة الثلاثة عن وجود ترتيبات للنفي سابقة للاضطرابات، قد حكمت المحكمة البريطانية في شهر يوليو/ تموز 1961 بعد 4 سنوات ونصف السنة ببطلان محكمة بلغريف الصورية وبطلان النفي وضلوع بريطانيا في ذلك وأمرت بإطلاق سراحهم كما حكمت المحكمة الصورية بالسجن 10 سنوات للقائدين إبراهيم فخرو وإبراهيم موسى قضوها في جزيرة جده. كما أجبرت السيد علي إبراهيم كمال الدين بالذهاب إلى المنفى في العراق حيث استقر في النجف الأشرف حتى عودته بعد الاستقلال في 1971، عمد بلغريف في مذكراته العلنية إلى عدم ذكر أي اسم من أسماء قيادة الهيئة إمعانا في احتقارهم والاستخفاف بهم
إقرأ أيضا لـ "عبدالنبي العكري"العدد 2291 - السبت 13 ديسمبر 2008م الموافق 14 ذي الحجة 1429هـ