في الذكرى الخامسة لغزو العراق طالعتنا صحيفة «الحياة» بلقاء مع السفيرة الأميركية السابقة في بغداد (أثناء غزو الكويت) ابريل غلاسبي.
اللقاء المطوّل نشر يومي السبت والأحد الماضيين، وعرفنا من خلاله أنها كانت مستشرقة خدمت في كل من لبنان وسورية، وهي الآن متقاعدة وتدرّس في أحد أحياء كيب تاون الفقيرة، وتمارس هوايتها في تربية الخيول!
تزداد أهمية اللقاء؛ لكونها خدمت في العراق، وزُجّ باسمها في معترك التاريخ من خلال المقابلة مع صدام حسين بعد أيام من غزوه الكويت. وعندما تقرأ المقابلة تشعر بأن الحدث أكبر منها بكثير، فهي مذ ركبت السيارة مع السائق العراقي قيل لها إنها ستقابل صدام، ولكنها لم تصدّق ذلك حتى دخلت القاعة ورأته بعينيها في ذلك اللقاء المثير.
الرواية السائدة هي إن الأميركيين خدعوا صدام حسين عن طريق سفيرتهم غلاسبي حين تركوا له انطباعا بأنهم لن يتدخلوا في «قضية حدودية» بين دولتين عربيتين، وهو ما فسّره بأنه ضوء أخضر أميركي للمضي في مشروع غزو الكويت. أما غلاسبي - التي سكتت أو أُسكِتَت 18 عاما، لم تقابل صحافيا أو تكتب مقالا في صحيفة من قبل - فيوحي كلامها الأخير بأن صدام هو الذي خدعها وهو ما سيبقى أحد إشكالات التاريخ الكبرى التي لن تحسم.
غلاسبي تبرّر لنفسها بالقول إن صدام كما خدعها فإنه خدع الرئيس المصري حسني مبارك، بقوله إنه «ليس أحمق بدرجة تجعله يجتاح الكويت». كما تؤكد أنها نقلت للخارجية العراقية خمس مرات ما تلقته من تعليمات صريحة لصدام بـ «عدم التدخل في الكويت ولا في أي مكان آخر». وعندما سألتها الصحافية عن تعاملها مع صدام المرعب، قالت: «لم أكن خائفة من صدام، ولكن ما كنت أخشاه أن يخطئ التقدير».
غلاسبي قدمت تحليلا نفسيا لصدام قد لا يوافقها عليه كثيرون من محبيه وأنصاره، فهي تراه جاهلا لدرجةٍ لا تصدق، ومع أنه لم يكن يعرف شيئا عن الجيوش، إلا أنه صمّم بدلة حزب البعث شبه العسكرية، وهو لم يقاتل ولا لدقيقة واحدة! ولكنه على غرار الشاه، كلما ازداد عظمة ازداد ادعاء وانتفاخا، فأصبح فجأة خبيرا بالمعدات العسكرية والإصلاح الزراعي والثقافة وكل شيء، وفوق كل ذلك يعتبر أن «الدولة هي أنا». فأي غرابة أمام هذه العقلية الاستبدادية أن ينتهي العراق العظيم إلى كارثة، وتسقط بغداد خلال ساعات، ويتبخر الجيش وتذوب القوات العسكرية كما تذوب فصوص الملح في الماء؟ ولا ننسى كيف هرب الرئيس بجلده يوم الزحف وتبعه أركان حكمه، وأخلوا الساحة لجحافل الغزاة.
لعل ما يستدعي هذه الوقفة السريعة تزامن اللقاء مع الذكرى الخامسة لغزو العراق، وخصوصا مع استشهاد غلاسبي بتجربة البريطانيين الذين كانوا يمتلكون سلاحا ممتازا في العشرينيات، ولكنهم لم يتمكنوا من إخضاع العراق، وهو ما فشل فيه الأميركيون لأن تناقضات العراق ومشكلاته طغت على الواجهة. وتحثّ قومها على التعلم من التاريخ، «فالماضي هو الماضي»، وهو أمرٌ نشك فيه في حالة الأميركيين!
وبينما صدام قضى شنقا، والعجوز المتقاعدة غلاسبي مازالت تربي خيولها ... لن نعرف الاجابة على أحد أسرار التاريخ: من الذي خدع الآخر؟
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 2020 - الإثنين 17 مارس 2008م الموافق 09 ربيع الاول 1429هـ