ليست مفاجأة تلك الخطوة التي أقدم عليها المدعي العام لمحكمة الاستئناف العليا في تركيا عبدالرحمن شتين كايا بإحالة حزب «العدالة والتنمية» الحاكم إلى القضاء بتهمة مكافحة العلمانية وخرق الدستور. فالمدعي العام طالب في عريضته التي تقع في 167 صفحة وتحتوي على آلاف الأدلة بمنع 71 من أعضاء الحزب الحاكم من العمل السياسي بمن فيهم رئيس الجمهورية عبدالله غل ورئيس الوزراء رجب طيب أردوغان. وذريعة المدعي العام لإقامة الدعوى تستند إلى تهمة محاولة إقامة نظام إسلامي في تركيا التي تعتبر في رأيه جريمة يعاقب عليها القانون العلماني الذي تأسست عليه الدولة الأتاتوركية منذ إلغاء الخلافة رسميا في العام 1924.
الخطوة ليست مفاجأة لأنها تأتي في سياق حرب طويلة بين قانون الدولة «الفوقي» وهوية المجتمع التاريخية. وهذا الصراع بين «الفوق» و«التحت» أو بين البنية الفوقية (الدستور) والتكوين الأهلي للمجتمع مضى عليه أكثر من 84 سنة وتأسس أصلا على فكرة الانقلاب العسكري الذي نفذه ضباط جمعية «الاتحاد والترقي» ضد السلطان العثماني عبدالحميد الثاني في العام 1908.
مضى على الانقلاب الأول (الكبير) مئة سنة وعاش الأتراك خلال هذا القرن الطويل فترات صعبة شهدت خضات عسكرية وسلسلة حروب وانقلابات وتقلبات إلى أن استقر التوتر الأهلي على مصالحة بين الدولة والمجتمع في العام 2001. دعوة المدعي العام ليست مزحة للتسلية وإنما يمكن وصفها بمغامرة سياسية خطيرة لأنها تحاول قطع الطريق على تعديلات دستورية أقرها البرلمان التركي أخيرا وقضت برفع الحظر عن الحجاب في الجامعات ومنع حل الأحزاب من دون إثباتات دامغة تؤكد مخالفاتها لمصالح الدولة العليا وأمنها القومي.
إلى ذلك، جاءت خطوة المدعي العام تشكل ضربة استباقية للحزب الإسلامي الحاكم الذي يستعد الآن إلى خوض معركتين مهمتين: الأولى إحالة القضاة العلمانيين إلى التقاعد في نهاية السنة الجارية وتعيين بدائل في مقاعدهم الشاغرة. والثانية بدء التحضير لمواجهة ميدانية على مستوى الانتخابات البلدية المقرر عقدها في السنة المقبلة.
المعركتان مهمتان. فالأولى تحسم مسألة القضاء بوصفه الملاذ الأخير للدولة الأتاتوركية ويشكل الدرع الدستوري الذي ينقذ «العلمانية» من الانهيار. والثانية تحسم مسألة الريف بوصفه يمثل ذاك الوعاء التقليدي الذي يحتضن «الأقليات» والمشكلات الموروثة عن العهود الماضية (الأكراد وتنمية الأناضول).
الخطوة إذا ليست مفاجأة وإنما تأتي في سياق دفاعي/ استباقي. فهي محاولة للدفاع عن إرث «جمهوري» تأسس على نظرية عزل المجتمع عن الدولة وتركيز السلطة في هيئة نخبوية مختارة تفرض على الجماعة الأهلية شروطها وتصوراتها. وهي ضربة استباقية تريد استنهاض المشاعر وتجميع القوى السياسية المتضررة من نمو الكتلة الإسلامية التي نجحت في كسب ثقة 47 في المئة من أصوات المقترعين في الانتخابات النيابية الأخيرة.
المدعي العام لا ينطلق من فراغ. فالخطوة تستند على قاعدتين واحدة دستورية تدعي حماية موروث الجمهورية الأتاتوركية. وأخرى شعبوية تستخدم مخاوف تلك التكتلات والتجمعات «العلمانية» و«الجمهورية» و«التغريبية» و«القومية» مضافا إليها تلك التيارات العنصرية الكارهة للإسلام بذريعة أنه يشكل دعوة عربية مستوردة فرضت لغتها وعاداتها وتقاليدها على تركيا في لحظة زمنية كانت فيها ضعيفة وغير قادرة على الدفاع عن شخصيتها المميزة والمختلفة.
المدعي العام حين قرر اتخاذ خطوته «القانونية» المخالفة للديمقراطية وإرادة الغالبية النسبية من الكتلة التصويتية اعتمد فعليا على فرضيتين: الأولى تستخدم الدستور «العلماني» للانقلاب على السلطة تمثلا بحالات وتجارب سابقة. والثانية تستخدم الشارع وما يمثله من كتلة تصويتية منقسمة على تيارات غير متوافقة على منهج «علماني» واحد ورؤية «قومية» مشتركة.
خطوة احترازية
المسألة مضحكة ولكنها جدية في استهدافاتها لأنها تشكل خطوة احترازية قد تكون الأخيرة في عملية تاريخية عرفت خلالها تركيا تجاذبات قاسية بين دولة تحاول فرض شخصيتها على المجتمع ومجتمع يحاول الممانعة وإعادة إنتاج هوية تنطلق من فكرة المصالحة. وأدى هذا التجاذب إلى تعطيل «الديمقراطية» مرارا وحل البرلمان واعتقال النواب وضرب الأحزاب ومنع قيادات تاريخية من الترشح أو العمل السياسي بذريعة «الأصولية» و«السلفية» وتهديد «علمانية» الدولة ومخالفة الدستور. وشكل هذا الصراع الخفي أحيانا والمعلن أحيانا حالات من الصعود والهبوط المأسوي لتجربة قلقة تنازعت قواها السلطة تحت عنوانين: الدستور والديمقراطية.
النزاع بين الدولة (الدستور) والمجتمع (الديمقراطية) رسم خلال قنوات التدافع السياسي في القرن الماضي صورة تركيا «الحديثة» التي بدأت بالانقلاب العسكري واستقرت نسبيا على مبدأ الاعتراف المشروط بالغالبية العددية (الانتخابات). ولكن الاعتراف المشروط احتاج دائما إلى نوع من تبادل ثقة غير موجودة. فالدولة (المجلس العسكري الحاكم من وراء الستار) كانت تشكك دائما بحسن نية الإسلاميين. والمجتمع (الهيئات والمؤسسات المدنية والأهلية) كان دائما في حال قلق من إقدام «النخبة» على استخدام صلاحياتها الدستورية للانقضاض على خيارات الناس وتوجهاتهم ومشاعرهم المتجانسة نسبيا مع البيئة الثقافية و المحيط العربي/ الإسلامي.
مشكلة «الأتاتوركية» الآن أنها دخلت طور الموات التاريخي بعد أن استنفدت وظائفها ولم تعد تملك «الجديد» لتقديمه إلى الناس. فالجديد أصبح قديما وهو أصلا انطلق من مبدأ استبدادي (انقلابي) أطاح بالسلطنة جارفا معها اللغة والتاريخ والتراث في خطوة اعتبرت آنذاك تجاوزا لحقوق الإنسان وحق البشر في الاختيار.
الأتاتوركية ليست علمانية أوروبية تحترم الدين وإنما تأسست على نزعة أناضولية (ريفية) انقلبت على الدين وعزلته عن الدولة بقرار عسكري. وهذا الاختلاف بين علمانية أوروبية اكتفت بفصل الدين عن الدولة وعلمانية أناضولية اعتمدت حركة انقلابية قامت على قاعدة سيطرة الدولة على الدين يعكس في النهاية تلك المسافة التاريخية بين تطور أوروبا في درجات التقدم الاجتماعي وبين انقضاض سياسي قادته دولة عسكرية (نخبوية) ضد مجتمع كان يمر في درجات متأخرة من التقدم الاجتماعي. وبهذا المعنى شكلت العلمانية الأوروبية درجة اجتماعية في طور تاريخي رسم حدود العلاقة الدستورية بين الدولة والمجتمع بينما شكلت العلمانية الأتاتوركية خطوة انقلابية ضد التاريخ وفرضت بالقوة حدود العلاقة الدستورية بين الدولة والمجتمع.
مئة سنة تقريبا مرت على الانقلاب الأول ولاتزال تركيا حتى اليوم تبحث عن هويتها التاريخية التي كادت أن تتبخر لولا ممانعة المجتمع ورفضه لتلك التحولات الفوقية. وبسبب تلك الممانعة التاريخية اضطرت النخبة إلى القبول بتلك التسوية والموافقة على وجود تكتلات سياسية في البرلمان تحظى بشعبية في الشارع. وشكلت هذه المصالحة درجة متقدمة في التقدم حين أدت إلى إعادة تكوين منطقة وسطى تلتقي في حدودها الدنيا مجموعة اتجاهات متخالفة ولكنها تجتمع على المصلحة المشتركة.
حزب «العدالة والتنمية» شكل قاعدة ارتباط ضرورية لحماية تلك المصالحة القلقة التي انعقدت بين قانون الدولة (الفوق) وهوية المجتمع (التحت) ونجاح التجربة الديمقراطية يعتمد كثيرا على مدى استمرار هذه التسوية التاريخية. فالدولة هيكل المجتمع أو «صورة المادة» كما يقول ابن خلدون في مقدمته. والصورة هي الهيئة التي يجب أن تعكس مادة العمران (المجتمع) وإلا لن تكون قادرة على التماسك من دون استبداد.
خطوة المدعي العام ضد حزب «العدالة والتنمية» ليست ضربة سياسية في المجهول ولا تشكل مفاجأة مستغربة وإنما جاءت في إطار صراع تاريخي مديد بين قوة «فوقية» أخذت تغيب تدريجيا عن مسرح التاريخ وبين كتلة تسووية تتوسط المصالحة لإنفاذ «جمهورية أتاتورك» من الانهيار.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2020 - الإثنين 17 مارس 2008م الموافق 09 ربيع الاول 1429هـ