مثلما خَلَطَ أستاذ العلاقات الدولية في جامعة جون هوبكينز تريتا بارسي في هجائه اليميني للجمهورية الإسلامية وعلاقتها بالعراق؛ يخلُطُ آخرون معه في الاتجاه نفسه، وإن تبدّلت الإرهاصات في ذلك ما بين مذهبية وسيا/دينية فإنّ خواتيم الأمور هي ذاتها. وإذا كانت الفكرة التي أقفَلْتُ بها حديثا سابقا لي في ذلك قد تكوّمت على معادلة التواطؤ ومفاضلة تفاصيله ونماذجه فإنني لأَجِدُ اليوم في تفكيك السلوك السياسي منطلقا آخر يُراكم التعريف الأليق بالعلاقات الإيرانية العراقية في حُقبة ما بعد صدام .
في الحالة الإيرانية وظروفها ينبغي تصوّر الأشياء من منبتها؛ فإيران الثورة لم تكُن جيرتها للعراق لتستمر أكثر من أربع وعشرين عاما، قضت عاما ونصف منها (فبراير/ شباط 1979 - سبتمبر/ أيلول 1980) في تحمية الظروف صدّا وردا كمقدمة طبيعية لأطول صراع جيراني في القرن العشرين، وثمانية أعوام عجاف في مرحلة لاحقة (1980 - 1988) كانت العلاقة خلالها علاقة احتراب مرير فاقت خسائره البشرية المليون ونصف المليون قتيل، وخسائره المادية قاربت الألف مليار دولار، تلتها خمسة عشر عاما (1988 - 2003) من العلاقات الرمادية غير المنسجمة وغير المستقرّة بين البلدين رغم تسوية الكثير من مخلّفات الحرب ماعدا التعويضات، فكانت تلك الحقبة بلا ملامح واضحة، حَكَمَتها ظروف براغماتية حينا إبّان حرب الخليج الثانية، وإنسانية حينا أثناء الحصار الدولي الظالم على العراق والذي فرضته الولايات الأميركية باسم الأمم المتحدة، حينها كان العراق يبيع جزءا من نفطه المكرر عبر إيران، ويستلم شحنات الأدوية والمساعدات الإنسانية عبر معبر شلمجه وثغرات الحدود الشمالية والغربية بينه وبين إيران، إلى حين انكباب التحالف الأنغلوساكسوني الاستعماري على خطة احتلال العراق والتي بدأت فعليا بعد مجيء الجيل الثاني من المحافظين الجُدد إلى البيت الأبيض.
في فترة العد التنازلي لضرب بغداد لم يكن أمام الإيرانيين أكثر من معارضة الحرب، وإغلاق الحدود البرية والجوية بينهم وبين العراق إلاّ للظروف الإنسانية، والاستعداد لترجمة مقولة المرشد الأعلى للثورة الإسلامية آية الله السيد علي خامنئي بأنّ «الأميركيين لن يشربوا كأس ماء بهناء في العراق» ما عدا ذلك لا أظنّ أنّ خيارا واقعيا أمكن تفعليه خلال تلك الفترة، وإلاّ لكان حال الفرنسيين الشيراكيين والروس والصينيين أفضل.
بطبيعة الحال فإنّ الخيارين (خيار بقاء صدام وخيار وجود الأميركيين) لم يكونا أقل من السوء بشيء، فكانت المفاضلة في مندوحة الضرر فقط، فبقاء صدام ضعيفا منكفئا على نفسه وعدوا للغرب لن يُشكّل خطرا حقيقيا على إيران سوى في تعطيل مشاريعها لإقامة أحزمة سياسية وأمنية ممتدة، وتحويلها إلى خطوط اتصال متقطّعة قد تكون عبر الحدود الشمالية حيث كردستان العراق، لكنه بالتأكيد لن يكون حائلا بينها وبين تلقّف ميزانه الاستراتيجي في المنطقة الذي أصبح مركونا بفعل الظروف الاقتصادية والسياسية الصعبة، وضمن الخيار الثاني حيث الوجود الأميركي سيكون أمام الإيرانيين خطر الوجود التماسي بينهم وبين أهم عدو وخصم لهم على المستويين الدولي والإقليمي، وبالتالي إبعاد أيّ مشروع استثمار إيراني للعراق في حال نجح المشروع الأميركي هناك، لكنه وفي الوقت نفسه سيكون أمام الإيرانيين فرصة القفز على التمنّع الأميركي عبر بوابة الحاكمين الجُدد في بغداد والذين هم بالأساس حلفاء للإيرانيين قبل الأميركان لظروف تاريخية وعقائدية وأيديولوجية.
ضمن هذين الخيارين اللذين لم يكن للإيرانيين فيهم ناقة ولا جمل سوى التهيؤ للتعامل مع أحدهما؛ بدأت الدبلوماسية الإيرانية لاستثمار أفضل الأوراق ربحا بالنسبة لهم وهي العمل بشكل مزدوج مع ملف العراق، وهي تطبيق نظرية المرشد الأعلى للثورة والقاضية بإعاقة أي مشروع أميركي ممتد وناجح داخل العراق أولا لتأجيل أو إفشال أو تغيير أي خطّة متوسطة الأمد أو بعيدة الأمد لمواجهة الأراضي الإيرانية من قِبَل القوات الأميركية، وثانيا تقديم النموذج الأميركي كأحد أسوأ النماذج المدنية والعسكرية وبالتالي إبعاده عن أيّة حالة استقطاب شعبي أو نخبوي في المنطقة والعالم، وبالتالي التراجع عن الترويج له في سورية أو دول أخرى في الشرق الأوسط.
في الشّق الثاني للدبلوماسية الإيرانية المزدوجة في العراق كانت أعمال الروابط السياسية والعقائدية والتاريخية بينهم وبين حكّام العراق الجُدد والذين أصبحوا ذوي علاقة ثنائية مزدوجة ومعقّدة بينهم وبين الإيرانيين من جهة وبينهم وبين الأميركيين من جهة أخرى، وبالتالي فقد كان التوجّه الإيراني يهدف إلى زيادة نوعية الأوراق الرابحة لطهران في المنطقة، أو كما وصفها غسّان شربل قبل أيام نقلا عن مسئول عربي حول وضع إيران في المنطقة «لا يمكن بناء عراق مستقر من دون موافقة إيران ومراعاة مصالحها وجزء كبير من مطالبها، ولا يمكن انتخاب رئيس للجمهورية في لبنان من دون موافقة طهران، ولا يُمكن استئناف الحوار بين فتح وحماس من دون موافقتها أيضا، فإيران موجودة في غزّة عبر حلفائها، وحاضرة على المتوسط عبر سورية وحزب الله، إنها تملك عبر كلّ ذلك قدرة التأثير على أبرز ملفين في المنطقة: أمن النفط وأمن إسرائيل».
إيران اليوم تمدّ مدينة البصرة وبعض المدن الجنوبية بالكهرباء، وتطبع الكتب الدراسية العراقية، وتُكرّر النفط العراقي، وتدير شبكتي الاتصال في النجف الأشرف وكربلاء المقدسة، ولديها مليارا دولار على شكل استثمارات قروض مع الحكومة العراقية، ومؤخرا وقّع الرئيس أحمدي نجاد سبع مذكرات تفاهم تتعلّق بإنشاء المجمّعات الصناعية والتعاون في مجال التأمين والجمارك والتعدين والنقل والمقاييس، والتقى خلال زيارته بوفود العشائر العراقية ورؤساء الجامعات والفنانين والمثقفين، ومن يُرِدْ المزايدة على العلاقات الإيرانية والعراقية أو من يُرِد تصوير تلك العلاقة بفوبيا النفوذ من منطلق قومي فلا أعتقد بأنّ هذا الهاجس موجود لدى السوريين الذين لا يستطيع أحدٌ أن يُزايد على قوميتهم، وبالتالي فإنّ تصحيح الإفهام ومعرفة الظروف لتقييم واقع قائم هي أفضل طريق من فتح جبهات وخصومات جديدة لن تزيد المنطقة إلاّ تشظّيا.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 2019 - الأحد 16 مارس 2008م الموافق 08 ربيع الاول 1429هـ