العدد 2019 - الأحد 16 مارس 2008م الموافق 08 ربيع الاول 1429هـ

خرافات وليست غيبيّات

الشيخ محمد الصفار mohd.alsaffar [at] alwasatnews.com

الإسقاطات هي أقوى وأفتك وأشد سلاح، فحين تسقط الكليات والمسلّمات الكبرى (كالإيمان بالغيب) التي لا جدالَ فيها، على جزئيات هي مورد الأخذ والرد والتصديق والعدم، يكون الناقد في عنق الزجاجة وموقع الإحراج، ويكون المطلوب منه هو الاستغفار والتوبة من الله، والاعتذار وطلب المسامحة من الناس.

في مقالي السابق (الشفاء بماء المحراب) وصلتني ردود كثيرة لن أصفها بشيء، ولن أصف أصحابها إلاّ بالحرص والاهتمام بواقع مجتمعهم وشعورهم أنهم جزء مسئول من هذا المجتمع الكبير (جزاهم الله خيرا)، ولذلك قست بعض كلماتهم ومواقفهم، على كل تقدير لهم منّي أن أحملهم على محمل الخير أبدا.

أنا لن أعود إلى الموضوع السابق فما كنتُ أرجوه هو بعث رسالة رأيتها من كثرة الحالات التي تصلنا مهمّة للغاية، وأنا حتى هذه اللحظة مؤمن بأهميتها، بيد أني سأشير إلى الإسقاطات التي حاول البعض تسريبها في تعليقاته ورسائله بشأن الموضوع.

لعلّ القارئ يعرف الإناء الذي تحمص فيه القهوة، لقد كان موجودا سابقا في أغلب البيوت، وأباؤنا وأمهاتنا أعرف به منّا، على كل حال قبل خمس سنوات تحرك في منطقتنا وعاء قديم مهترئ صدئ، قيل إن مَنْ كانت أو كان لديه حاجة فليضع فيه الماء وبعد أنْ يغلي على النار، يستنشق بخاره أو يشربه فإنه يشفى من علته، وقد وفق هذا الإناء ليدخل العديد من البيوت، وتكرع منه الكثير من الشفاه أملا في تحصيل الشفاء وقضاء الحاجات.

وفي زهو حركته الدؤوبة وقع بيد أحد العقلاء فأمسكه عنده ورفض الاستجابة للفكرة السائدة في منطقته، وقد تمنّى أنه لم يفعل؛ لأنه اتهم في دينه وإيمانه واعتقاداته، وازدادت عليه الأقاويل، واشتد ضغط الناس على أهله وأولاده.

ولكي لا يكون الموضوع محليا حتى النخاع، فقد تورّط أحد أصدقائي مرّة في باكستان، لقد كان موجّها دينيا محبوبا ومقبولا عند الناس، وهو بالفعل دمث الأخلاق، قريب إلى القلوب، إلى أن استنهض يوما للصلاة على جنازة، فلم يلبث أنّ لبّى النداء وهرول إلى حيث اجتماع المفجوعين، لكنه فوجئ بشكل الجنازة، إنها في ضخامتها وصورتها ليست جنازة إنسان، مما دفعه لسؤال الحاضرين عن ماهية هذه الجنازة المُسجّاة، فأجيب إنها جنازة لفرس من سلالة قوية، كان في بعض المهرجانات الدينية العاشورائية يمثل عليه من يقوم بدور الإمام الحسين أو العبّاس عليهما السلام وهما وأهل البيت لهم المقامات العالية والمكانة السامية، والمجتمعون الآنَ يريدون إكرام الفرس بالصلاة عليه.

لم يكن رفض الرجل وهو العارف بأمور الشرع سهلا ويسيرا لدى الناس، ولم يستقبل استقبالا حسنا، لقد كان آخر ما توقعوه منه أنْ يظهر لهم رفضه القاطع لتنفيذ رغبتهم، ومحالا حاول الرجل ثنيهم عمّا يريدون الإقدام عليه، لكنه ُطرد وزُجر، وأصبح يُعامل من قبلهم بطريقة مهينة لم يعتد عليها.

أحبّ أيضا أنْ أعود بالقارئ قليلا إلى الوراء، إلى خمس عشرة سنة مضت، لكي لا يعيش لحظته الراهنة فقط، هل يتذكّر الأوراق التي كنّا نراها عند البيوت وفي الشوارع، والتي تصدّر بكرامة ثم يُطلب من قارئها طباعتها بعدد معيّن وتوزيعها وإلاّ فسيحل به البلاء. هل تتذكرون أن بعضها كان يشترط الكتابة اليدوية وليس التصوير بالأجهزة الحديثة؟ إذا كنا نتذكّر فلماذا غابت هذه الأوراق عنّا اليوم؟

حتى أبادل من نصحني وأرشدني النصيحة أقول: الذهاب بمقالي السابق بعيدا وتحميله إنكار الكرامات وعدم الإيمان بالغيبيات والركون فقط لماديات الدنيا، هذا القول وما بفحواه يقبل في أطر بعيدة عن النصيحة وليست مريدة لها، إنّ التوقف عند حالة ما أو تصرف ما لا يعني إنكار المسلّمات ورفض الغيب، كيف وقرآننا الكريم يؤكّد الغيب في نفوسنا {الذين يُؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم يُنفقون}. لقد وردت مفردة (غيب) في القرآن الكريم أكثر من (45) مرة، فمن ينكر الغيب؟

إنّ ما يُنكر هو أنْ يفرض علينا كلّ شيء باعتباره غيبا، والويل ثم الويل لك إنْ تفوهت بكلمة، وما ينكر هو أنْ يستغل الغيب استغلالا غير محمود، وما يُنكر هو انتشار الخرافة والخزعبلات باسم الغيب، وما يُنكر هو أخذ الغيب سيفا سليطا على رقبة كلّ مَنْ حاول التوقف والتأني عن الكثير من المفردات التي تسوق باسم الغيب.

الغيب لا يُنكره مسلمٌ والكرامات لها محلّها ومكانها، لكن لن تقنعني برسالة جوال، تأمرني أنْ أرسلها إلى (50) شخصا، وفيها منام أو حلم لأحد الصالحين، وتتوعدني إنْ لم أفعل نزل عليّ البلاء، لن تقنعني أنّ هذا غيب وإنْ اضطررتُ إلى استقبال التهم ليل نهار.

إقرأ أيضا لـ "الشيخ محمد الصفار"

العدد 2019 - الأحد 16 مارس 2008م الموافق 08 ربيع الاول 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً