بسبب وقوعها في وضعية «القابلية للاستعمار» بحسب المصطلح الذي أطلقه المفكّر مالك بن نبي كانت الدول العربية والإسلامية أو بصورة وشكل آخر أكثر «عصرية» و»كولونيالية» ما بات يطلق عليه مسمّى «الشرق الأوسط» وتارة أخرى «دول المنطقة» أضحى هذا العالم المصغر بما اشتمل عليه من كونه مهدا للحضارات والأديان وجبة شهية تخصب خيال الباحثين والمفكّرين الاستراتيجيين والمستشرقين غربا ممن عكفوا عبر «مراكز الدراسات والاستشارات والحوار» على مواصلة الإبداع لخرائط وسيناريوهات جرد وفرز وتقسيم دول المنطقة وأمتعتها الكيانية إلى كانتونات طائفية وإثنية، وهذا دون شك حلم «استعماري» قديم لم ترد أغلب المراكز الغربية والنخبة الاستراتيجية الاستيقاظ من غواياته المتعددة حيث تكتنز روائح العنف والثروة وربما «الخلاص المسياني والرسالي»في آخر الزمان!
ففي عددها رقم «1463» تطرقت مجلة «المجلة» إلى ما نشر في مجلة «ATLANTIC MONTHLY» حول خريطة طائفية سياسية جديدة للشرق الأوسط وقد اقترحها وقدّمها الباحث جيفري جولدبيرج المعروف بعلاقاته الوثيقة مع الأوساط الصهيونية، وإنْ كانت «المجلة» قد أشارتْ أيضا في عرضها لهذه الخطة إلى الأدبيات الكلاسيكية لمخططات ومشاريع التقسيم والتفجير الطائفي والإثني لهذه المنطقة ومنها الخطة التي نشرتْ في مجلة «كيفونيم» العام 1982، فإن ما يختلف مع هذه الخطة الجديدة ربما هو كونها أدرجت «إمارة» أو كيان انقسامي قد يبدو جديدا هو «إمارة غزة الإسلامية» و»منطقة سيناء البدوية» التي يبلغ عدد سكانها 200 ألف نسمة فتتساءل «المجلة»:»هل هي مصادفة أنْ تنشر الخريطة مع أحداث غزّة واختراق الفلسطينيين لحاجز رفح؟»، ولا تغفل الخريطة عن كيانات أخرى مفروزة على أساس طائفي وإثني ومنها «باشتونستان» و»بلوشستان» و»خوزستان» بالإضافة إلى دويلات العراق السنية والشيعية والكردية.
وكعادة أصحاب ومعدّي هذه الخرائط يستقوي جولدبيرج الذي لم يخرج في خريطته عن السياق العام بتزكية 25 خبيرا ومتخصصا في شئون المنطقة في سبيل منح المصداقية العلمية والأكاديمية لخريطته التي لم تفرط بفريضة الأجيال المشتركة تجاه إعداد هذه الخرائط والمتعلقة بإبقاء الكيان الصهيوني أصلا ثابتا موحدا لا فرع له والحصن الحصين المستقطب في المنطقة على رغم أن المؤشرات والدلائل الواقعية تشير إلى كون هذا الكيان الشاذ معرض طبيعيا واستراتيجيا لحدوث مثل هذه الانقسامات المُراد إحداثها في هذه المنطقة وهو ما يُريد الباحث تجاهله كما أشارت «المجلة» إلى ذلك!
وإنْ كان بعض الزملاء الأفاضل يعكفون على اتهام مراكز الدراسات والمعاهد الاستراتيجية الغربية بالضلوع السافر في التخطيط لتفجير المنطقة طائفيا وإثنيا، وهو ما ليس عنها بغريب، إلا أنه ومثلما أن هنالك «نظرية القابلية للاستعمار» لدى مالك بن نبي فهناك أيضا وعلى الوزن ذاته نظرية القابلية للطأفنة وتفجير مشاكل الأقليات الإثنية والدينية في المنطقة التي لربما نعاصر في لحظاتنا الراهنة أعنف تجلياتها السوداوية حيث هي أكثر الحقب إشراقا في هيمنة الحراك الطائفي والمذهبي والإثني على كامل الأصعدة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بعد سلسلة مريرة من إخفاقات النخب القومية واليسارية التقدمية!
وتسليما بذلك فهنالك تجار لبراميل البارود في هذه الحقبة المظلمة من قادة جماهيريين وعلماء ورجال دين وساسة وتجّار يستظلون بأردية العلماء وغيرهم ممن يهيمنون على مختلف المشاهد الدرامتيكية لوضعيتنا الراهنة محليا وإقليميا - وهم بالتالي معرّضون ربما «قدريا» لأنْ يكونوا خير وكيل ترويج وبيع مهما اختلفت نواياهم المبدئية وأجندتهم السياسية وذلك لرؤى مراكز الدراسات الغربية ومخططاتها في المنطقة، والتي وإنْ كانت غبية وخرقاء في طيّاتها إلا أنه وكما أثبتت التجارب والخبراء أن رجال هذا الزمن من علماء وفقهاء وساسة وتجار مستجيرين بـ «كاريزماهم» الجماهيرية هم خير من يذكي الذكاء في تلك الأضابير والصحف الاستشراقية الغبيّة، وليسوا جوقة المتلبرلين العربان الجدد وعرابين المحافل الماسونية الذين انكمشوا كثيرا بعدما انعدمت صلاحياتهم استراتيجيا، ولم يعدو دورهم بالتالي عن الترويج لوجبات وساندويتشات التنوير الغربي كما لو أنهم عاملون في سلسلة مطاعم الوجبات السريعة!
وربما بنظرة واقعية سابرة لطبيعة الدور والموقع والوضعيات المتداخلة التي يختص أو حتى «يتورط» بها رجال الدين في مرحلتنا الراهنة وغيرها من مراحل التاريخ الإسلامي فإنه يبدو من الصعب جدا إنْ لم يكن من مجمل المستحيل في أحايين كثيرة أنْ يتخلّص رجل الدين والعالم والفقيه والخطيب الواعظ من أضيق الأطر المذهبية وهالات الجماعة في خطاباته ورسائله وتحركاته الميدانية بما فيها ما يمكن أن نطلق عليه بـ «بروتوكولات التقريب بين المذاهب» و»الالتقاء بالآخر»، فهناك في منتهى الحالات حقيقة أخروية مطلقة صلبة تتصادم كثيرا مع رغبة في العيش الدنيوي المشترك خصوصا وإنْ كان «كل من عليها فان» وهناك أيضا صراع وصدام حتمي بين المطلقات ولا يعرف حينها متى سيطلق سراح الإنسان من بينها ليشق له منطلقا للود والقبول والتحاب المشترك!
خذ على سبيل المثال المواقف المشرّفة لأحد رموز الاعتدال والوسطية الإسلامية وهو العلامة الجليل فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي وهو ما جعل منه هدفا محبذا لسهام الموتورين والمتطرفين والطائفيين في كلّ المناسبات، وكيف أنّ مثل هذه المواقف المشرفة التي لا تنسى لشيخنا الجليل لم تعصمه ذات يوم في أحد المؤتمرات الإسلامية الجامعة حينما شنّ هجوما حادا على حملات «التشيّع» في بعض «المناطق السنية»، فأصبحنا بذلك نتعامل مع بعضنا بعضا على رغم شهاداتنا التوحيدية المعلنة كما لو أننا أصحاب حملات تبشيرية متصادمة في ذات الميدان؟!
وخذ أيضا كمثال آخر موقف رمز آخر من رموز الاعتدال الوسطي والصفاء والوضوح المبدئي في عالمنا الإسلامي ألا وهو العلاّمة المجاهد والمرجع آية الله السيد محمد حسين فضل الله الذي لطالما عُرف بالاجتهادات التقدمية وسعيه المُخلص والمجتهد للتقريب بين المذاهب الإسلامية مما أهله بجدارة لأنْ يلاقي من صنوف التجريح والشتم من قبل المتطرفين والطائفيين فيما لا يقل عما واجهه أخوه الشيخ يوسف القرضاوي، إلا أنه وعلى رغم التراث المسنود حاضرا للعلامة فضل الله من تلك الوقفات البطولية النيّرة بما فيها فتواه الأخيرة ضد سب الصحابة «رضوان الله عليهم جميعا» إلا أنها لم تقه وتحصنه في النهاية من أن يكون مبهما ومترددا وغير واضح من الإجابة بحزم على أسئلة أحد مقدّمي البرامج الفضائية حينما سأله عن حكم أن يتحوّل الشيعي من مذهبه إلى سني وذلك رغم اعتراف الأزهر بالمذهب الجعفري!
أما بخصوص حالات المسخ والتقمص السياسي - الديني - المذهبي المسئولة عن أكبر كمية رغاء وغثاء طافي يغلّف العقل والبصيرة ويحجب النور في هذه المرحلة فهي واضحة في ما وصل إليه الحال برجال الدين حينما يستنجدون بمراتبهم الفقهية وبالآل والأصحاب وقبلها بالآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية في سبيل تدعيم مكاسبهم ووضعياتهم السياسية في مقابل منافسة قوية من خصوم سياسيين يفتقرون لتلك الإشراقات والمراتب الدينية القيمة سياسيا!
وعلى رغم أنّ علم السياسة إنْ هو وضع في منشأه للوصول إلى كلمات سواء ولأقرب الحلول العملية بين مختلف الأطراف فإننا لم - وربما لن - نشهد قط منطقة نفوذ سياسي حر ومشترك تحت إدارة رجال دين من مذاهب مختلفة على رغم أن المصلحة العامة وما يطلق عليه بالـ «Common Interest» هو أمر لا بد منه، فأشكال التقمص تتكاتف آليا مع بعضها وتعمل داخليا ومنطقيا ضد جميع أضدادها في نفس الوقت من داخل البيت ذاته، وما أنْ تتجرأ على التلويح بحل وطني مشترك يعصم الجميع ويلف قلوبهم وعقولهم على حبل الله حتى يتوحد ضدك الأنصار والمريدون الطائفيون والموتورون والمتمصلحون من الشفاعات والتزكيات التجارية والسياسية كما لو أنهم ذئاب يدورون حول فريسة وحدتهم وإنْ كانت هذه الفريسة هي غيمة لا غنمة وطنية شاردة!
فهل سيكون من قدر رجال الدين الأجلاء والعلماء الأفاضل أنْ يدخلوا في صراع داخلي حامي الوطيس مع أنفسهم وأدوارهم ووضعياتهم حتى يثبتوا براءتهم من خبث الطائفية بحكم قوانين الطبيعة والفطرة الملزمة لهم بشراك الحقائق واليقينيات المطلقة، عسى أنْ يكونوا بذلك ورثة الأنبياء لا أنْ يجدوا أنفسهم ذات ليلة ليلاء وقد انحصروا في مراتب ورثة مراكز الدراسات الغربية ومخططاتها التشطيرية ذات التوجهات الصهيونية، فيكونوا حينها أمراء الطوائف والإثنيات ورجال هذا الزمان الأغبر وهو ما لا نتمناه؟!
إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"العدد 2019 - الأحد 16 مارس 2008م الموافق 08 ربيع الاول 1429هـ