العدد 2017 - الجمعة 14 مارس 2008م الموافق 06 ربيع الاول 1429هـ

إيران في طور المرحلة الرابعة

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

توجّه أمس 44 مليون ناخب إلى صناديق الاقتراع لاختيار نواب 290 مقعدا في مجلس الشورى الإيراني. وبغض النظر عن النتائج النهائية لموازين القوى وحجم التمثيل للكتل النيابية فإنّ إيران دخلت اليوم طور المرحلة الرابعة في ثورتها. وهذه المرحلة تعتبر مهمّة في سياق تاريخي جمع بين الثوابت والمتغيرات. فالثورة منذ اندلاعها في العام 1978 طرحت مجموعة تحديات كان لها أثرها في صنع التاريخ المعاصر. وبسبب ظروفها المحلية ومحيطها السياسي والبيئات الدولية والإقليمية التي عايشتها مرت الثورة في محطات مختلفة ولكنها متواصلة الحلقات. الآنَ وبعد مرور 30 عاما يمكن القول إنّ الثورة حافظت على ثوابت مشتركة تجتمع على قواعدها مختلف القوى المتنافسة على إدارة السلطة حتى لو تلونت أفكارها بآراء متغايرة . فهناك ما يشبه الإجماع بين القوى السياسية على حماية الدولة والثورة على رغم الاختلاف على برنامج الأولويات. وبرنامج الأولويات لا يلغي ذاك المشترك الذي تأسست عليه قواعد الانطلاق الأولى التي صنع موادها الأولية الإمام الخميني.

انطلقت الثورة من مبادئ بسيطة ولكنها كانت كافية لقلب نظام حكم الشاه وتعديل قواعد اللعبة وإطلاق حركة تجديد لم تقولب في برنامج حزبي أو خطة واضحة تحدد جدول أعمالها. فالإمام الخميني لم يعد الناس ببناء المدارس والمستشفيات والمصانع أو تطوير الإنتاج والمزارع والمؤسسات مقابل المساعدة على طرد الشاه. الفكرة كانت واضحة ومختصرة وتركّزت على مهمّة واحدة: إسقاط الطاووس.

معركة الإمام الخميني انحصرت في دائرة استرداد الهوية والدفاع عن الإسلام ومنع محاولات طمسه وازاحته من المجتمع. آنذاك كان نظام الشاه قد دخل مرحلة متقدّمة من «العلمانية الأتاتوركية» المتطرّفة التي تقضي بتغيير مقوّمات هوية المجتمع (العادات، التقاليد، اللغة) والعودة إلى تاريخ سابق للإسلام. وشكّلت خطوات الشاه ردة فعل شعبية ساهمت في تكوين رؤية مضادة تركّزت على معركة استرداد الهوية والدفاع عن الإسلام لمنع الارتداد إلى فترة ما قبله.

الدفاع عن الهوية أعطى ذاك الزخم الانفجاري للثورة فهبّت انتفاضة أهلية عامّة اشتركت في صنعها طبقات مختلفة في مصالحها الاقتصادية ولكنها موحّدة في مشاعرها ومخاوفها. وبسبب هذا الإجماع الأهلي على الفكرة نجحت الثورة في إسقاط الشاه وإخراجه من إيران في العام 1979.

مشروع استرداد الهوية لم يتلاش بعد إسقاط النظام السابق بل تحوّل إلى برنامج عمل حدد الأولويات بثلاث نقاط: الإسلام أوّلا، الثورة ثانيا، الدولة ثالثا. ووفق هذا الترتيب تبرمجت حركة الاصطراع السياسي الداخلي بين القوى والتيارات الأيديولوجية وبدأ الاختلاف على إدارة السلطة وشهدت الثورة تفجيرات واغتيالات وعمليات فرز وتهميش من دون أنْ تتغير معادلة الأولويات.

بدأت المرحلة الأولى من عملية التغيير عنيفة ولكنها كانت مبررة ومفهومة إلى أنْ وقعت الحرب العراقية - الإيرانية. تعاملت طهران مع الهجوم العسكري الذي شنّه النظام العراقي السابق تحت شعار الحرب المفروضة. فالقيادة رأت في الحرب المفروضة التي لم تعلنها أو تختارها فرصة تاريخية لإعادة بناء المجتمع وهيكلة توجهاته انطلاقا من ميدان القتال.

ساهمت الحرب المفروضة في تعزيز سياسة استرداد الهوية انطلاقا من المجتمع لا الدولة. وبسبب ظروف المواجهة فرضت الحرب مجموعة مهمات أكّدت مجددا على تلك الأولويات التي رفعتها الثورة بعد إسقاط الشاه. فالقيادة التي خاضت معركة الدفاع عن الهوية واصلت مهمتها انطلاقا من توظيف حاجات الحرب المفروضة لإعادة هيكلة هوية المجتمع أولا وصولا إلى الدولة ثانيا. وأدت المواجهة على الحدود العراقية إلى تبرير كل السياسات الاقتصادية والتنموية وإعطاء ذريعة كافية لتأكيد عناصر الدفاع عن الهوية الإسلامية انطلاقا من مهمة «عسكرة» المجتمع. فالحرب المفروضة التي امتدّت ثماني سنوات شكّلت ذاك الفاصل الزمني بين المرحلة الأولى (استرداد الهوية وعسكرة المجتمع لتأهيله ثقافيا للدفاع عن الثورة) وبين المرحلة الثانية التي بدأت بوقف الحرب وغياب المؤسس عن القرار والمشهد السياسي.

بعد المؤسس

رحيل الإمام الخميني في العام 1989 أنهى المرحلة الأولى لتبدأ في عهد رفسنجاني المرحلة الثانية. نتائج الحرب المفروضة أسست مجموعة أولويات تحت سقف النقاط الثلاث. والجديد في الموضوع أنّ حاجات المرحلة أكد ضرورة إعادة ما دمرته الحرب الأمر الذي رتب النقاط وفق أولويات: الإسلام أوّلا، الدولة ثانيا، الثورة ثالثا. فالشيخ رفسنجاني اكتشف اعتمادا على التجربة المرة صعوبات «تصدير الثورة» في عالم معاصر تسيطر على مفاصله المركزية قوى كبرى تديره وتشرف على اقتصاداته ومصادر ثروته.

بدأت مع رفسنجاني مرحلة إعادة ما دمّرته الحرب الأمر الذي رفع الدولة إلى المرتبة الثانية في اعتبار أنها تشكّل حاجة ضرورية لإعادة تأسيس اقتصاد (مؤسسات) في شروط قاسية وضمن علاقات شديدة التعقيد جاءت بعد غياب المؤسس. فالعسكرة التي أنتجتها ضرورات الحرب المفروضة كان من الصعب تجاوزها أو تفكيكها بسهولة لذلك تعامل معها رفسنجاني بصفتها تشكل ذاك الأمر الواقع. فالحرب أنتجت ميدانيا الاقتصاد الحربي (مؤسسات بناء) ومجتمع حربي (مؤسسات شهداء) وهذا ما جعل القيادة السياسية تتعامل بمرونة مع حاجات الدولة ومتطلبات الثورة.

استمر رفسنجاني في الحكم ثماني سنوات؛ لتبدأ بعده مرحلة محمد خاتمي. خاتمي حاول منذ مطلع عهده تجاوز فترة إعادة بناء ما دمرته الحرب؛ لينتقل إلى تأسس نوع من المصالحة بين استرداد الهوية (المجتمع) واسترداد الدولة لمواقعها في قيادة التحوّلات. هذه المصالحة بين الدولة والثورة تحت سقف الهوية المشتركة أثمرت نسبيا ولكنها فشلت في إعادة إنتاج أولويات جديدة تهيكل برنامج التنمية والتحديث والتطوير في إطارات مستقلة عن مؤسسات «العسكرة».

استمر خاتمي في الحكم ثماني سنوات محاولا المصالحة بين ثورة تأسست على هوية ودولة تريد استعادة دورها من دون كسر تلك الوقائع الميدانية التي أنتجتها الحرب المفروضة.

وبسبب ضعف الدولة وعدم قدرتها على تطويع الهوية بدأت تنمو حركة معاكسة تتجه نحو العودة إلى المواد الأولية التي انطلقت على أساسها الثورة. إلا أنّ معركة استرداد الهوية جاءت في هذه الفترة مخالفة للبدايات الأولى؛ لأنها بدأت تشق طريقها وسط فضاءات دولية وإقليمية مغايرة لتلك المرحلة التي عرفها العالم في العام 1978 - 1979.

ظهور محمود احمدي نجاد على المسرح السياسي جاء ليؤسس مرحلة رابعة من محطات الثورة بدأت طلائعها ترتسم في ظروف دفاعية تقلق قيادة طهران من احتمالات عدوان يقوض الهوية والدولة والثورة معا. فالمتغيرات الإقليمية التي أحاطت بإيران من جهة الشرق (احتلال أفغانستان في نهاية العام 2001) ومن جهة الغرب (احتلال العراق في مطلع 2003) ومن جهة الشمال (عودة روسيا إلى المشهد الدولي وظهور دول مستقلة في آسيا الوسطى وضفاف بحر قزوين) مهدت الطريق لنمو ظاهرة أحمدي نجاد. فهذا الرئيس لم يصنع نفسه وإنما ساهمت ظروف إيران الداخلية وما طرأ عليها من تحوّلات في المحيط الإقليمي والفضاء الدولي في صنعه وتشكيل عقليته وبرنامجه.

مرحلة أحمدي نجاد هي الرابعة في محطات الثورة الإيرانية. فالأولى امتدت من العام 1979 إلى العام 1989 (عشر سنوات تقريبا) وبدأت انطلاقا من انتفاضة أهلية خاضت معركة استرداد الهوية وعسكرة المجتمع دفاعا عن الحدود (الدولة) والثورة والإسلام. الثانية (رفسنجاني) امتدّت إلى العام 1997 وتركزت مهمتها على إعادة بناء ما دمرته الحرب؛ ما رفع موقع الدولة إلى المرتبة الثانية (بعد الإسلام) نظرا لوظيفتها وحاجة المجتمع لها لإعادة بناء مؤسسات تلبي تطلعات الناس وتحتوي نزوعهم نحو الاستقرار. الثالثة (خاتمي) امتدت إلى 2005 وتركزت مهمتها على محاولة عقد مصالحة بين الدولة والثورة تحت سقف الهوية المنفتحة والمطمئنة وغير خائفة أو قلقه من العالم والمحيط.

الآنَ تعيش إيران بدايات طور مرحلة رابعة تحتاج إلى فترة زمنية لإعادة تأكيد قواعدها انطلاقا من تثبيت مواقعها في مفاصل الدولة بذريعة المحافظة على إنجازات الثورة (الملف النووي مثلا). والانتخابات البرلمانية التي جرت أمس تشكل خطوة في سياق عام يتطلب صدقية سياسية وشرعيه أهلية لضمان احتمال إعادة هيكلة الأفكار الأولية التي انطلقت على أساسها الانتفاضة الأهلية.

إعادة الهيكلة تقتضي كسر الهوية وانزالها من المرتبة الأولى إلى الثالثة ورفع الثورة إلى صدارة متقدمة في العلاقات الجوارية والإقليمية والدولية. فهل تشهد المرحلة الرابعة محطة جديدة تعتمد على ثلاثية مغايرة للمرحلة الأولى؟ ظروف أحمدي نجاد مختلفة وهذا الاختلاف يضغط عليه لترتيب أولوية تضع الثورة أوّلا والدولة ثانيا والإسلام ثالثا. ومثل هذا البرنامج المعاكس يتطلب إعادة هيكلة للمؤسسات حتى تكون جاهزة لتقبل التغيير سواء من الداخل أو الخارج. الاحتمالات تشير إلى صعوبات لان الهيكلة تتطلب كسر ما تم تصنيعه بكلفة عالية وغالية في الفترات الثلاث السابقة. والكسر يتطلب هزة كبرى ربما تنجح وربما تؤدّي إلى الانهيار... وتقويض كلّ الإنجازات التي تحققت خلال العقود الثلاثة الماضية.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2017 - الجمعة 14 مارس 2008م الموافق 06 ربيع الاول 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً