لاتزال الولايات المتّحدة الأميركية تعمل لفرض هيمنتها على العالم كلّه، ضاربة بعرض الجدار كلّ القوانين والأعراف التي ينبغي أن تحكم حركة الدول، غير عابئة بالأخطار التي يُمكن أن تدمّر البشريّة كلّها.
فمنذ الحرب العالميّة الثانية، والولايات المتّحدة لم تتوقّف عن صناعة الأسلحة النووية والمتطوّرة، وقد دخل العالم منذ ذلك الحين في سباقٍ للتسلّح، ولاسيّما النووي، بدءا بالاتّحاد السوفياتي وبعض الدول الأوروبّية، كفرنسا وبريطانيا وغيرهما، من أجل إبقاء الهيمنة على مواقع النفوذ السياسي والاقتصادي في العالم. وقد كانت الولايات المتحدة الأميركية أوّل دولةٍ تستخدم هذا السلاح في اليابان، في ناغازاكي وهيروشيما، إذ سقط عشرات الآلاف من المدنيّين، ولاتزال تتحرّك بآلتها العسكريّة المتطوّرة لتهدّد المعارضين لسياساتها، وهي في الوقت نفسه تؤكد أنها تسعى لتطوير السلاح النووي، كما جاء على لسان أحد المسئولين الأميركيين قبل أيام، فيما تواصل ضغطها على إيران في ملفها النووي السلمي، في الوقت الذي احتضنت بعض الدول، كبريطانيا وفرنسا، «إسرائيل» في صنع السلاح الذرّي، بحجّة أنّها تتعرّض للخطر من قِبَلِ جيرانها الذين لا يملكون ما يمنحه الغرب، ولا سيّما أميركا، لهذه الدولة الغاصبة للأرض والمضطهدة للشعب، والطامحة للتوسّع والهيمنة.
وفي مقابل ذلك، فرض الغرب كلّه حظرا دوليّا - حتّى على مستوى الأمم المتّحدة - على أيّة دولةٍ تحاول الحصول على الخبرة العلميّة التقنية النوويّة للاستخدام في الأغراض السلميّة، وذلك باتّهامها بأنّها تخطّط لإنتاج السلاح النووي من دون أيّ دلائل واقعيّة، كما نشهده بالنسبة إلى الملفّ النووي السلمي في إيران التي تتعاون مع وكالة الطاقة الذرّية.
وأمام ذلك، يُطلق مدير وكالة الطاقة الذرّية صرخته للدول الكبرى، ولا سيّما أميركا وروسيا، للتخفيف من المخزون النووي للسلاح، محذرا من الأخطار المستقبليّة على البشريّة كلّها، ولكنّ هذه الصرخة لم تلقَ بالا؛ لأنّ القضيّة عند الدول الكبرى هي إبقاء الهيمنة على دول العالم الثالث لمصلحة أوضاعها الأمنية والاقتصادية والاستراتيجية.
وعلى رغم أنّ وكالة الطاقة الذرية أكّدت أنْ لا دليل على أنّ إيران تخطّط لصنع السلاح النووي، فإنّ هذه الدول المستكبرة تستخدم مجلس الأمن الدولي لفرض القرارات بالعقوبات الاقتصاديّة ضدّ إيران، للضغط عليها في إيقاف تخصيب اليورانيوم، ويتحدّثون في ذلك عن أنّ إيران تمثّل خطرا على العالم كلّه، في الوقت الذي يعرف الجميع أنّ إيران لا تمثّل خطرا على جيرانها، بل إنّها تسعى للسلام والتعاون معهم، وأنّ الخطر إنّما هو من الكيان الغاصب، ومن الولايات المتّحدة الأميركية التي تحاول أن تنشر قواعدها العسكريّة في منطقة الشرق الأوسط وغيرها من الدول، بما فيها الدول الأوروبّية، كما تتحرّك بأساطيلها البحرية الحاملة للطائرات في الخليج والمتوسّط والبحر الأحمر، لإظهار قوّتها العالميّة، لتهدّد من يُراد تهديده، وتُخضع من يُراد إخضاعه، وتخوّف من يُراد تخويفه، وتضغط من الناحية السياسية والأمنيّة في حركتها الاحتلاليّة على أكثر من دولةٍ معارضة، وتدعم عملاءها والخاضعين لسياستها في المنطقة من أجل إرباك الأوضاع الاقتصاديّة وإيجاد حالات من الاهتزاز الأمني وإثارة الفوضى المتنوّعة، من أجل إيجاد الظروف الملائمة لمشروعاتها في المنطقة العربيّة والإسلاميّة.
وهذا ما رأيناه في البوارج الحربيّة التي تقف قبالة الساحل اللبناني، في محاولةٍ للالتفاف على فشلها السياسي والأمني في الضغط على المقاومة في لبنان وفي فلسطين، ولتأكيد الدعم المطلق للعدوّ الصهيوني في ارتكاب المجازر الوحشيّة ضدّ المدنيّين في غزّة والضفّة، حتّى ضجّت الأرض من دماء الأطفال الرضّع والفتيان اليافعين في الأيّام الأخيرة؛ كلّ ذلك تحت مقولة «حقّ (إسرائيل) في الدفاع عن نفسها»، وأنّ المقاومة الفلسطينية تمثّل الإرهاب، في الوقت الذي يؤكّد المنطق الحضاري، أنّ من حقّ أيّ شعب محتلّة أرضه أن يدافع عن نفسه؛ ولكنّ الإدارة الأميركية لا ترى أيّ اعتبار للمنطق الحضاري الإنساني عندما يتّصل الأمر بـ «إسرائيل»، ولذلك فهي تضغط على مجلس الأمن ليُساوي في قراراته بين المجرم والضحيّة، وتحارب كلّ قرار إدانة للمجازر الإسرائيليّة الوحشيّة، لأنّها تشبه ما تقوم به من مجازر ضدّ الشعوب، ولاسيّما في العراق وأفغانستان، وتحاكي تاريخها في الإبادة الجماعيّة التي تحرّكت ضدّ شعوب أميركا الأصليّين.
بطولات فلسطين تربك المعادلة الدولية
وفي هذه المناسبة، فإنّ العمليّة البطوليّة في القدس أثبتت أن المجاهدين في فلسطين قادرون على إنزال الضربات القاسية بالصهاينة، على رغم الإجراءات الأمنية المعقّدة، وهي ردّ فعل طبيعي على العنف الوحشي الإسرائيلي في غزة، وكذلك في الضفة، وتؤكد أن أيّ تصعيد إسرائيلي سيجتذب ردّ فعل موازيا له.
ومن المؤسف أن تسارع الأصوات الدولية، وحتى السلطة الفلسطينية، إلى إدانة هذه العملية، ولاسيما الرئيس الأميركي الذي وصفها بـ «العمل البربري»، في الوقت الذي يعتبر كل هذا العالم المستكبر المجازر الصهيونية ضد الأطفال والرضّع والنساء والشيوخ دفاعا عن النفس!
محاصرة المبادرة العربية
إنّ الولايات المتّحدة التي تعتبر نفسها الإمبراطورية الكونيّة والدولة الأقوى في العالم، أصبحت خطرا على العالم كلّه، حتّى على حلفائها وأصدقائها في الغرب، ولذلك فإنّ على الشعوب أن تقف بقوّة من أجل الدفاع عن حرّيتها ضدّ هذه الدولة الوحشيّة التي لا تؤمن بالمبادئ الإنسانيّة، ولا تحترم القوانين الدوليّة، ولا تحسب حسابا للشعوب، لأنّها تحوّلت إلى دولة عنصريّة لا تفكّر إدارتها إلا في البحث عن فرصة لحرب هنا أو هناك، الأمر الذي جعل كثيرا من الضعفاء يخضعون لقوّتها خوفا على مواقعهم الرسميّة، ويتحرّكون ضدّ إرادات شعوبهم وتطلّعاتها، ويعملون على تحويل بلدانهم إلى سجونٍ للأحرار.
ومن المؤسف أنّ المشهد العربي في أكثر مواقعه لايزال يركّز على المبادرة العربيّة للسلام التي سحقتها «إسرائيل» تحت أقدامها، بل لم تحترم أيّ بندٍ من بنودها، وتركت للإدارة الأميركية أن تشغل العرب بالحديث عمّا أسمته دول الاعتدال والتطرّف، والحديث الاستهلاكي عن الدولة الفلسطينية القابلة للحياة مجرّد إضاعة للوقت، يمكّن «إسرائيل» من الاستفادة في استكمال استراتيجيتها في تهويد القدس، وفي بناء المستوطنات، وفي إذلال الشعب الفلسطيني على المعابر، واللعب على وتر الخلاف الفلسطيني الداخلي لتقوية الحصار الخانق، ولضرب الأمن في غزّة بشكل وحشي، وفي الضفّة بشكل ضاغط.
وقد اعتدنا أن لا نتوقّع أن تخرج القمم العربيّة، فضلا عن اجتماع وزراء الخارجيّة العرب، بأيّ مواقف أو قرارات فاعلة لإنقاذ الشعب الفلسطيني من وحشية حليفة بعض الدول العربيّة، «إسرائيل»، في الوقت الذي نسمع بعض التصريحات العربيّة من وراء الكواليس، توحي بعدم حضور القمّة انطلاقا من بعض التعقيدات العربيّة تجاه مكان انعقادها.
البوارج الأميركية: المزيد من التهويل
أمّا المبادرة العربيّة لحلّ الأزمة اللبنانية، فقد دخل بعض المسئولين العرب في السجال الداخلي اللبناني، في تأييد فريق على حساب فريق آخر، إضافة إلى ما يتناقله الإعلام الأميركي من المشاورات الأميركية - العربيّة في إرسال البوارج إلى الشاطئ اللبناني، في استعادة للطريقة التاريخية في تهديد العرب بعضهم بعضا بـ «إسرائيل» وأميركا وفرنسا، ما يوحي بأنّ هناك عربا متفرّقين مختلفين لا تجمعهم أيّة جامعة، وأنّه ليس هناك عالم عربيّ، فقد سقط هذا العالم من الاعتبار منذ مؤتمر مدريد الذي رفضت فيه «إسرائيل» - ومعها أميركا - أن تفاوض العرب مجتمعين، لأنّها كانت - ومازالت - تريد أن تلعب على التناقضات العربيّة الثنائيّة، لتربح الموقف في امتداد الضعف العربي، وفي عجز المواقف عن الانتصار.
وفي الختام، فإنّنا ندعو الشعب اللبناني إلى أن لا يسقط أمام تهاويل الخوف التي أُريد له أن يواجه من خلالها التطوّرات الأمنيّة في حركة البوارج الأميركية، وأن يبقى صامدا قويّا مؤمنا بالله وبقدرته على نُصرة عباده على كلّ الذين يُريدون له أن يبقى في حال اهتزاز سياسي أو أمني، وأن يغرق في دوّامة المذهبيّة والطائفيّة والحزبيّة، وأن يبقى مشدودا إلى الذين يبحثون عن امتيازاتهم الشخصيّة ولا يبحثون عن امتيازات الشعب والوطن.
إقرأ أيضا لـ "السيد محمد حسين فضل الله"العدد 2016 - الخميس 13 مارس 2008م الموافق 05 ربيع الاول 1429هـ