بين طنجة وعدن... ومدن تغسل كآبتها حين أصحو. أدلف إلى الحوانيت العتيقة باحثا عن رجال أراهم مرآة الروح... وتقاطيع الذهول والفضيحة والارتباك. حرا كأنْ لم أكنْ نزيل أرحام أمهات... وأرحام مدن وشوارع ملوثة بوحشة الغرباء.
يتجمهر المارة حول جثة نقرتها طيور الهجرة. خيوط دماء على صفحة القار. لوحة متوحشة. يقترب رجال الشرطة منها. ولكنهم ينشغلون بالخيوط... باللوحة. لم يخف أحدهم ذهوله وإعجابه بالرقي المتوحش!!!.
قالت سيدة مرفّهة: كنت أراه كل صباح يجمع أغطية القناني والعلب الفارغة، وعينات أحذية بالية، يجر خلفه عربة ملأى بالنفايات والدمى المحترقة.
قالت فتاة شبه عارية: كان كثيرا ما ينشغل بتقاطيعي... غازلني ذات مساء... أشفقت عليه كثيرا، لذا بصقت عليه!!!.
قال سائح: كثيرا ما كان يسأل عن الوقت. لم يعره اهتماما، ولكنه في المرة الأخيرة بدا ضجرا مبلّلا بالهلع... مغسولا بالرعب.
***
إلى أين تأخذك هذه الصحوة؟ تلامس بأطرافك حدود المدن المتصقعة. تشفق على الغرباء إشفاقك على أمك المسلولة من الجوع وذهول الحاجة. تتقصى أخبار المروج والينابيع وصخب المواسم والأقنعة الفارغة مزدحما بالأساطير والأعياد الآفلة. تبدو ساذجا كلما اعتقدت أن امرأة مشغولة الفكر بك. كلما اعتقدت أنك عزاء هذا التناقض الدهري. كلما تصورت أن لديك قدرة على التقاط المدن والملاجئ والمصحات ومضامير الخيول كالأصداف بعد قيلولة البحر. كلما توهمت أنك لها وهي لك، وأنها الحياة التي تتغرغر بطفولتها ومخملها المطعّم بالكنوز وشقاء العبيد. كلما وكلما...
صار مألوفا في المصحات كحبة فاليوم. شائعا كالغرف المغلقة. يعزف مقطوعته اليتيمة:
يدوْزن صاحب الصنعة أصابعه
فيما خالق المعادلة يدوْزن مخلوقات الغيب!!!.
***
هذه المخلوقات تذرع المصحة جيئة وذهابا. نزيل يفلّي الرخام من الأخذية. آخر يبدو مشدوها لساعات طويلة. يلوّح بملعقة، وفي الليل يسدلون عليه بطانية لينام واقفا حتى صباح آخر.
نزيل آخر يهذي بالدولار، وتقارير البورصة، ثم لا يلبث أن يجوب العنابر. يحمل آنية يقرعها بعملة معدنية.
نزيلان يستسلم أحدهما إلى الآخر. يجلس قبالته. يحاول الآخر أن ينسخ ملامحه. يرسم بغلا بملامح ارستقراطية!.
***
بعد عشر سنوات من مقتله في ظروف غامضة، أقسم الناس أنهم رأوه متسلِّلا يحمل الهدايا وخصلات شعر. زهورا وعيِّنات عطر. يتركها أمام الأبواب ... يطرقها، ثم يولّي هاربا.
ذات صباح وجدوا خصلات الشعر وقد تسلّقت الجدران كشجر اللبلاب، أما الزهور فقد تحولت إلى قوارير عطر.
***
قال لي ساخرا: مازلت عاريا
وإن تقمَّصتَ الخز!.
قال لي وقد أرخى الليل سدوله:
كن كهذا في نصوعك!.
قال لي: أضعفنا
أقوانا على البطش!.
قال لي: لا تُضجر مرآتك
بطول انتصابك أمامها!.
عُدْته يوما فقال:
دعوا المصابيح مضاءة
كي لا تتعثر الروح!.
***
بعد طول غياب
استقبلني مودِّعا...
العدد 2016 - الخميس 13 مارس 2008م الموافق 05 ربيع الاول 1429هـ