قرر الرئيس جورج بوش إرسال نائبه ديك تشيني إلى «الشرق الأوسط» حاملا معه «رسالة تطمينات» إلى دول المنطقة. الجولة التي ستبدأ الأحد المقبل ستشمل تركيا ورام الله وتل أبيب والرياض وسلطنة عُمان، وستتضمن «رسالة التطمينات» مجموعة نقاط تتصل بالموضوع العراقي (أنقرة ونفوذها ومخاوفها من مستقبل بلاد الرافدين) وفلسطين (التسوية والدولة) وأمن الخليج والنفط (زيادة الإنتاج لخفض أسعاره).
النقاط واضحة ولا تحتاج إلى عناء لتحليل ارتباطها. فالعراق المحتل ليس بعيدا عن فلسطين المحتلّة. والنفط مسألة متصلة مباشرة بأمن الخليج. وبين العراق وفلسطين توجد ملفات ساخنة تنتظر التوافق العربي على ضبط انفعالاتها. وبين العراق والخليج توجد منطقة وسطى أخذت إيران تلعب دورها المتصاعد فيها على المستويين الأمني والإقليمي.
هناك دول معنية مباشرة بالنقاط المطروحة على جدول أعمال جولة تشيني لن يزورها نائب الرئيس. الموضوع الفلسطيني مثلا يقع في صميم الاهتمامات المصرية وتحديدا مسألة قطاع غزة ودور القاهرة الخاص في ترتيب هدنة بين حكومة «حماس» وحكومة ايهود اولمرت. كذلك الموضوع الفلسطيني في مسألة الضفة الغربية يقع في صميم الاهتمامات الأردنية ودور عمّان الخاص في التأثير المتبادل في سياسة الضفتين.
عدم زيارة مصر والأردن في جولة تحتل فيها مسألة التسوية و«خريطة الطريق» وقيام دولة «قابلة للحياة» يطرح علامة استفهام بشأن موضوع مركزي يمثل أعلى الأولويات العربية. هذا الالتفاف الأميركي وتجنب المرور في قنوات مصرية وأردنية والذهاب فورا إلى رام الله وتل أبيب يثير أسئلة تتحفظ بشأن مدى جدية التزام إدارة البيت الأبيض بالوعود التي أطلقها خلال جلسات «مؤتمر انابوليس». فالهبوط بالطائرة من دون إنزال مؤقت في مطاري القاهرة وعمّان يرسل إشارة ضوئية عن وجود حركة التفاف أميركية تتجنب إعطاء دور عربي في عملية التفاوض الجارية الآنَ بين رام الله وتل أبيب أو بين غزة وحكومة اولمرت.
الأمر نفسه يمكن رؤيته في جولة تشيني الخليجية. فالزيارة اقتصرت على محطتين ولم تشمل تلك الدول العربية المعنية مباشرة بالأمن وصلته بالنفط (الإنتاج والأسعار). وعدم توجه تشيني إلى الدول الأخرى وهي في مجموعها مترابطة اقليميا ومرتبطة بإطار تنظيمي (مجلس التعاون) يطرح ايضا علامات تعجب في موضوع عام تشترك كلّ دول الخليج في همومه وقضاياه.
موضوع زيارة تركيا ليس منفصلا عن تلك الهواجس السياسية والأمنية التي أخذت ترتفع حدتها بعد التوغل التركي في شمال العراق الذي تصادف عشية زيارة الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد إلى بغداد وتوقيعه تلك العقود مع حكومة المالكي الأميركية.
الموضوع التركي يمكن قراءة فصوله على أكثر من صعيد. فهناك مسألة تراجع فرص أنقرة في دخول منظومة الاتحاد الأوروبي والتعويض المعنوي والمادي الممكن تقديمه في منطقة «الشرق الأوسط». وهناك أيضا مخاوف تركيا من قيام «دولة كردية مستقلة» برعاية أميركية بعد تنظيم الانسحاب من بلاد الرافدين وتأثير تلك «الدويلة» على الأمن القومي والجغرافيا السياسية (الأقلية الكردية في الأناضول). وكذلك هناك نقطة مهمة تتعلق بمستقبل العراق بعد إعادة انتشار الجيش الأميركي في نهاية العام الجاري أو العام المقبل وتأثير الفراغات الأمنية على التوازن السكّاني في بلاد الرافدين واحتمال تطور النفوذ الإيراني في حوض دجلة والفرات.
الغموض الأميركي
النقاط كثيرة وهي في مجموعها العام متداخلة وليس سهلا فك ارتباطها. فالعراق يتصل بالشأن الفلسطيني مرورا باللبناني. وبلاد الرافدين تحتوي على مجموعة ملفات حساسة متواصلة في حلقاتها من النفط إلى الأمن إلى خطوط النقل والإمدادات في دائرة الخليج انتهاء بتلك المتغيرات المحتملة بين الداخل العراقي والمحيط العربي وغير العربي. ومثل هذا التشابك الميداني في القضايا الحساسة يتطلب نظريا أن تكون «رسالة التطمينات» التي يحملها تشيني في جعبته واسعة في استهدافاتها وشاملة في توجها تها. فما هي «التطمينات»؟ ومن يريد نائب الرئيس تطمينه؟ وضد من؟ وما هو مقابل التطمين؟ وكيف يمكن الرهان على طرف مارس تقليديا سياسة لا تطمئن وخصوصا على مستوى انحيازه الكلي لحكومات تل أبيب؟
بوش في كلامه السريع الذي أعقب خبر إرسال تشيني إلى المنطقة أشار إلى إيران من دون أن يوضح طبيعة السياسة المطلوبة من الدول العربية لتنظيم العلاقات مع طهران. واشنطن مثلا تتصل «فنيا» و«تقنيا» بالوفود الدبلوماسية الإيرانية وعلى مستوى خبراء وتعقد اجتماعات معها في بغداد بإدارة حكومة المالكي. وهذه الاتصالات أسفرت عمليا عن علاقات ميدانية وترتيبات أمنية وترسيم حدود المصالح ومواقع النفوذ من دون أن تكون الدول العربية على بينة بالموضوع أو معرفة بالأمر. فهل يحق للولايات المتحدة ما لا يحق للدول العربية؟ وهل المنطق يقول أن مصلحة أميركا تقضي التفاهم مع طهران ولا يجوز للعواصم العربية الذهاب بالاتجاه نفسه لضمان أمن المنطقة وتوازنها الإقليمي على مستويات مختلفة من المصالح المشتركة والجوارية.
غموض السياسة الأميركية من قضايا المنطقة مسألة خطيرة وتحتاج إلى أكثر من «رسالة تطمينات». فالعلاقات بين واشنطن وطهران ملتبسة وتثير أسئلة كثيرة. والوعود الأميركية للقيادة الفلسطينية غير واضحة وتثير علامات استفهام لا حصر لها. وتحفظ واشنطن عن خطوات التقارب العربية باتجاه إيران وتركيا والصين وروسيا وانزعاجها من نشاط الدبلوماسية العربية وتطورها الدولي نحو أوروبا وفرنسا (جولة الرئيس نيكولا ساركوزي مثلا) كلها إشارات تتجاوز إمكانات ضبط العلاقات العربية - الأميركية تحت سقف توازن المصالح وحق الدول في تحديد الأصدقاء والأعداء.
الغموض الأميركي في توضيح استراتيجية ثابتة من مختلف القضايا يثير فعلا القلق؛ لأنه ينعكس سلبيا على الأمن القومي والاستقرار الإقليمي وتوازن المصالح. ومثل هذا الغموض لا يقتصر على الغاية من الاحتلال الأميركي للعراق ومعنى هدم دولة عربية وتقويضها وإخراجها من المعادلة وإنما يشمل ايضا مسألة النفط وحقول توظيفاته واستثماراته وحق الدول المنتجة في تقرير السياسة التي تناسب مصالحها من دون أضرار بالاقتصاد العالمي.
كل هذا الغموض الأميركي المعطوف على تأييد كاسح للجانب الإسرائيلي وعداء غير مبرر للشعب الفلسطيني يتطلب أكثر من «رسالة تطمينات». والرسالة الوحيدة المعقولة والمقبولة هي أن تكف أميركا عن التدخل العبثي وأن تقلع عن سياسة تنظيم الخلافات بين الدول وتدفيعها ثمن اخطاء الاستراتيجية الأميركية وعثراتها الدولية
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2015 - الأربعاء 12 مارس 2008م الموافق 04 ربيع الاول 1429هـ