البرلمان كلكم تعرفونه، أما «العناجيش» فسنتكلّم عنها بعد قليل لأنها كادت أن تدخل في غيابة التاريخ!
لقد عرفت البحرين إلى ما قبل ربع قرن بكثرة الطيور؛ لكثرة الخضرة والمزارع والبساتين، إضافة إلى ما تمثّله البحرين من محطة «ترانزيت» للطيور المهاجرة بين أقطار الخليج. من هنا تفنّن البحرينيون منذ القدم بطرق صيدها، ولدينا نصٌ بديعٌ لشاعرنا القديم طرفة بن العبد، الذي نزل مع عمه على ماءٍ، فنصب فخا ولكن لم يفلح باصطياد قبّرة حتى نهاية النهار فلما مضى انقضّت القنابر على الحَبّ تأكله، فقال:
يا لكِ من قبّرةٍ بمعمرِ
خلا لكِ الجو فبيضي واصفري
ونقّري ما شئتِ أن تنقري
الرواية التاريخية تقول إن طرفة كان في السابعة، ولا ندري هل كان فشله لنقصٍ في مهارات الصيد أم لنقص خبرته، أم لمهارة القنابر في ذلك الزمان! فالمعروف إن البحرينيين كانوا يستخدمون بعض الحشرات طُعما لاستدراج الطيور، من بينها «العاقور»، وهي يرقةٌ لأحد أنواع الخنافس تقتات على النخيل وتنخر جذوعها، ومن هنا جاء اسمها من «العقر». كما كانوا يستخدمون الجنادب أيضا، وهي من الخنفسيات وتسمّى بالإنجليزية (tiger beetles)، وتختبئ في الصخور. هذا إلى جانب «أبوهديب» و «العنجوش» و«العَتَل»... وغالبا ما تعيش في الطين أو المستنقعات.
اللطيف إن كل طيرٍ له حشرةٌ مفضّلةٌ من بين هذه الحشرات! فأبوهديب مفضلٌ لدى «الفقاق» و«المداقية»، والعنجوش للشرياص... وسبحان من خلق وقدّر.
البحرين اليوم غيرها قبل ربع قرن. فالمساحات الخضراء انحسرت، والبساتين اصفرّت، والطيور اختفت. ومن المؤكد إن غالبية أبناء الجيل الجديد لا يعرفون مثل هذا التراث والأسماء، وإن بقيت الأدوار والصنعة ليمارسها قومٌ آخرون، باستخدام «العناجيش» و «العواقير»... في الحقل العام.
في الفترة الأخيرة بدأت بعض الأصوات الصحافية النشاز تنادي بوأد الإصلاح وإغلاق البرلمان، وكأن الديمقراطية لعبةٌ أو «طربةٌ» أو مزاجٌ، وليست خيارا استراتيجيا للدول والشعوب الناهضة. وإذا أرادت البحرين لنفسها خيرا فعليها ألاّ تتردّد أو تساوم على خيار الديمقراطية والانفتاح والإصلاح.
الكل يعرف أن لدينا مشكلات اقتصادية ومعيشية، وأن هناك شكوكا متبادلة بين أطراف اللعبة السياسية، وهناك برلمانٌ مقيّدٌ يشارك بعض أعضائه في التقليل من صلاحياته المحدودة أصلا... إلاّ أن كل ذلك لا يدعو إلى نسف التجربة، فما بعد ذلك إلاّ إعادة تكميم الأفواه وفتح المعتقلات والعودة الجماعية إلى المنافي والشتات.
التجربة ليست نموذجية بكل تأكيد، وهي تعاني جوانبَ نقصٍ كبيرة، كتب عنها الكثيرون، وخصوصا الخلل في تمثيل الدوائر، والتشوّه الذي سببته المراكز العامة... ولكن ليس الحلّ تقويض التجربة والعودة إلى المربع الأمني والمجون الإعلامي، حتى وصلت الخفة بأحدهم إلى المطالبة بتسوية مبنى البرلمان بالأرض وإقامة مطاعم للوجبات السريعة؛ لأنها أنفع للحكومة!
هؤلاء لم يضحوا من أجل التغيير والإصلاح، ولم يؤمنوا قط بديمقراطية ولا بانتخابات أو إرادة شعب، ولا يهمهم تقدمت البلاد أو تأخرت، مادامت رواتبهم الشهرية وعطاياهم مضمونة.
هؤلاء عاشوا عبيدا لأحقاب، ومستعدون أن يعيشوا عبيدا لأحقاب أخرى. فلا فرق عندهم بين الحرية والعبودية، أو الاستبداد والديمقراطية، أو حرية التعبير وقمع الحريات... ولذلك ينادون بكل وقاحةٍ بعودة عصر الظلمات، استخفافا بخيارات الحكم والشعب الطامح لغدٍ أفضل، ويُستخدمون طُعْما كما تستخدم الجنادب والعناجيش والخنفسيات
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 2013 - الإثنين 10 مارس 2008م الموافق 02 ربيع الاول 1429هـ