التأجيل السادس عشر لانتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية حصل أمس. والموعد الجديد الذي حدده رئيس مجلس النواب نبيه بري يقع في 25 مارس/ آذار الجاري أي قبل أربعة أيام من قمة دمشق. وجاء التأجيل من دون احتجاجات سياسية عنيفة كما كانت العادة في المرات السابقة. واللامبالاة التي ظهرت من خلال تصرفات قوى «8 و14 آذار» تكشف عن نوع من الاسترخاء السياسي والاطمئنان الأمني وعدم جدوى الاعتراض في ظل فضاءات إقليمية وصلت إلى درجة عالية من التوتر. فالقوى المحلية باتت كما يبدو على قناعة بأن تمديد أزمة الرئاسة أصبح مرهونا بمجموعة تطورات تنتظر المنطقة في الفترة المقبلة. وبما أن التجاذبات الإقليمية المحكومة بسقف دولي تشرف الولايات المتحدة على إدارته هي التي تتحكم في قرار انتخاب رئيس لبلاد الأرز تصبح الاعتراضات لا قيمة ميدانية لها.
الانتظار بات يشكل المخرج المنطقي لسياسة محلية مقفلة على مختلف البوابات. والاتفاق على مبدأ الانتظار وفلسفته الحكيمة لا يعني أن القوى المحلية متوافقة على مدته. فهناك من يرجح أن تعقد جلسة الانتخاب في 25 مارس الجاري ويقوم الرئيس الجديد العماد ميشال سليمان بتمثيل لبنان في قمة دمشق. وهناك من يرى أن المهلة القانونية التي انقضى عهدها لم تعد محكومة بالقمة العربية وبالتالي يصبح التأجيل مسألة محتملة إلى فترة بعيدة قد تمتد إلى ما بعد انتخابات الرئاسة الأميركية.
حتى الآن القوى اللبنانية ضائعة بين التأجيل القصير المدى والتمديد الطويل في محطاته الزمنية. ولكن الغريب في الموضوع إن الأطراف المعنية مباشرة بمسألة الرئاسة لم تعد مكترثة كثيرا كما عبرت مرارا عن امتعاضها في فترات سابقة. وعدم الاكتراث يوجه رسالة سياسية للقوى التي تعطل انعقاد الجلسة بأن الابتزاز الذي مارسته استنفد أغراضه ولم يعد يشكل ذاك الضغط النفسي لانتزاع التنازلات على مستويات مختلفة.
عدم الاهتمام بانتخاب رئيس يعتبر خطوة في اتجاه التأقلم مع الواقع اللبناني وتلك التداخلات الدولية والإقليمية والجوارية في إنتاج سياسته. وهذا النوع من الرد اللاشعوري على مسألة مهمة وحساسة يمثل حالة من اليأس التي أخذت تتكيف مع متغيرات دولية وإقليمية وجوارية. فالقوى اللبنانية لم تعد مكترثة لكل الاحتمالات وهي لا تهتم كثيرا بكل ما يقال عن تهديدات إسرائيلية واحتمال فتح جبهة جديدة في الجنوب أو ضد ساحة لبنان. وهي أيضا لم تعد معنية كثيرا بتلك التسريبات عن وجود تقاطعات إسرائيلية - سورية أو تفاهمات أميركية - سورية تحتمل العودة إلى اتفاقات دولية - إقليمية تعيد لدمشق دورها الخاص في الدائرة اللبنانية. والقوى نفسها لم تعد تعير ذاك الاهتمام لكل ما يقال عن لقاءات أميركية - إيرانية واحتمال حصول صفقات إقليمية كبرى بين واشنطن وطهران في حال تمت تلك الترتيبات بين الطرفين.
قلة الاكتراث تكشف عن نزعة لبنانية قابلة للتكيف مع كل الطوارئ التي تحملها المنطقة إلى البلد الصغير. والمفاجأة المتوقع حصولها في القريب العاجل أو على الأمد الطويل لم تعد تحرك المخاوف اللبنانية باعتبار أن المشاعر والأحاسيس فاضت عن حدها وباتت أقرب إلى السكينة والهدوء.
لبنان الآن يمر في حال من الركود النفسي بانتظار ما ستكشفه الأيام من تحولات. والقوى المحلية التي تعودت في مراحل سابقة على بيع لبنان وعقد صفقات على مصلحته لم تعد مكترثة لتَكرار هذا السيناريو تحت شعارات شتى. لذلك باتت في وضع قابل وغير مقتنع بإعادة إنتاج تسوية تعيد اقتسام ساحة لبنان إلى مناطق نفوذ كما كان حالها منذ 1976.
تقاطعات ورهانات
يبقى السؤال: هل توصلت فعلا التقاطعات السورية - الأميركية والمفاوضات الإيرانية - الأميركية إلى هذا الطور المتقدم من التفاهمات على الملفات الثلاثة العراقية والفلسطينية واللبنانية؟
المعلومات غير واضحة، والاحتمالات مفتوحة على انتكاسات. الملف العراقي لايزال في طور التجاذب الإيراني - الأميركي تحت سقف الاحتلال. فالاحتلال صاحب القرار وهو حتى الآن يحدد هيكل العلاقة وأطرها ومساحتها. ولأن الولايات المتحدة هي الطرف الأقوى في المعادلة فهي تستطيع تغيير قواعد اللعبة حين تجد الفرصة مناسبة لذلك. وقواعد اللعبة محكومة دائما بالحاجة وما تفرضه من ضغوط سياسية على اللاعب الكبير كذلك فإن الأقوى في المعادلة يدرس ثمن كل خطوة ويقيس مدى حيويتها وخطورتها. والثمن لا يحدده الطرف الأضعف في توازن القوة.
الملف الفلسطيني بدوره لايزال في طور إعادة الدراسة. والاحتلال الإسرائيلي المحكوم بالسقف الأميركي هو الطرف الأقوى في المعادلة وبالتالي يرى أنه الجهة الصالحة لتحديد ثمن كل خطوة سيعتمدها في الفترة المقبلة. ولا يستبعد في هذه الحالة أن يقدم الاحتلال على تغيير قواعد اللعبة فيتجه نحو التفاوض مع «حماس» على القطاع ونحو الحصار والاستيطان وتوسيع الوحدات السكنية في الضفة.
بين العراق وفلسطين يتأرجح الملف اللبناني بين الاقتتال الأهلي أو ترك الساحة مفتوحة على احتمالات أخرى. ويفسر التأرجح المذكور اتجاه القوى المحلية إلى اتباع سياسة الانتظار والمهادنة والقبول بالأمر الواقع وربما التكيف معه حتى لا تسقط المفاجأة المتوقعة على اللبنانيين كالقنبلة الفراغية. فالتجارب السابقة التي مر بها البلد الصغير أسست قناعات تتقبل فكرة «المؤامرة» وما يحاك في الكواليس الدولية والإقليمية والجوارية. وجاهزية الشعب اللبناني للتأقلم مع التحولات باتت عادة سياسية طورت لديه وسائل التعامل معها بمرونة والتكيف مع نتائجها حتى لا تكون الخسائر أقوى من قدرة البلد على التحمّل. ولعل هذه القراءة التي تنتظر مفاجأة فراغية تفسر عدم الاكتراث بتأجيل جلسة الانتخاب. فالقوى المعطلة للجلسات وصلت كما يبدو إلى الحد الأقصى في استغلال مسألة الرئاسة ولم تعد العرقلة تشكل ذاك الهاجس السياسي الذي يؤرق ويدفع الأطراف الأخرى إلى تقديم تنازلات لتمرير هذا الاستحقاق الدستوري. والأطراف الأخرى التي كانت تستعجل انتخاب الرئيس لم تعد مكترثة لهذه الخطوة حين اكتشفت أن الثمن المطلوب هو التضحية بالكيان السياسي وسيادته لتمرير هذا الاستحقاق.
يُنتخب الرئيس في 25 مارس الجاري أو لا يُنتخب؟ هذا السؤال لم يعد يشكل ذاك الضغط على القوى المحلية للحصول على تنازلات مقابلة مادام الثمن المطلوب يفوق كل التوقعات والاحتمالات. وبما أن الأسعار المتداولة في السوق أعلى من إمكانات الأطراف على دفعها يصبح الرد هو الإهمال وعدم الاكتراث. واللامبالاة تجاريا تعني الكساد. فالبضاعة حين تفقد الحاجة إليها تخسر قيمتها وتستنفد وظائفها
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2013 - الإثنين 10 مارس 2008م الموافق 02 ربيع الاول 1429هـ