الكاتب الصحافي الأميركي المعروف بوب هربرت كتب في عموده الصحافي بصحيفة «النيويورك تايمز» بتاريخ 19 فبراير/ شباط 2007 مقالا عنونه بـ «الهدف الخطأ»، وقد استعرض فيه ملامح فضيحة مدوّية أحدثت ضجة كبيرة في المجتمع الأميركي حين وقوعها ليس فقط لكونها تتعلق بالاختطاف والإرغام على ممارسة الدعارة «غير الأخلاقية» والبغاء «غير الشرعي» والانخراط الاستثماري في السوق الحمراء، وإنما أيضا لكون أبطالها المتهمون «النيويوركيون» هم مخبر أمني يدعى واين تايلور وصديقته زاليكا براون والضحية هي فتاة ذات 13 ربيعا تم اختطافها من إحدى الحفلات واستغلالها في أعمال الدعارة والبغاء، حيث تم عرضها أمام تجمع للفتيان وإرغامها على ممارسة الجنس معهم بمبلغ أربعين دولارا أميركيا للجنس الشفاهي أو السطحي وثمانين دولارا للاتصال الجنسي، وقد أخبر المخبر الأمني وصديقته الفتاة الضحية بأنه قد تم بيعها وشراؤها بمبلغ خمسمائة دولار لأغراض الدعارة «هكذا وكأننا في أيام الرقيق والعبودية القديمة» كما يوضح الكاتب!
ومع القبض على أبطال هذه الفضيحة اللا إنسانية ذات الأمثلة العالمية العديدة يشير الكاتب إلى كون القانون قد لا يلعب بالضرورة دورا إيجابيا وبناء ومنصفا في التعامل مع هذه القضية ومثيلاتها الكارثية، فالأمور عادة ما تتخذ مجرى طبيعيا في تطبيق الأحكام الجنائية، كما أنّ هذه الآلة القانونية تزداد سلبية حينما تتم صفقات الدعارة والبغاء في حق أطفال وقاصرين نظير مبالغ مالية معينة وإنْ ذهبت تلك المبالغ والأرباح إلى «القواد» وتاجر البغاء (أعزكم الله) على حساب الضحية المستنزفة والمنتهكة براءتها وطهارتها بمنتهى التوحش الآدمي، فيتم بناء على ذلك اعتقال الضحية الصغيرة في السن وحبسها على ذمة القضية ربما كوسيلة للضغط والإكراه لانتزاع الاعتراف حول الجوانب الغامضة من القضية، وهو ما قد يفوق ردعا وتأديبا في الغالب ما يتعرّض له الجناة والخاطفون والمتاجرون والمضاربون باللحم البشري الطري! لأجل ذلك يُطالب الكاتب ومعه الكثيرون من النشطاء الحقوقيين الغربيين المتصدين لأمثال تلك الجرائم البشعة بضرورة حدوث تغيير جوهري حقيقي في التعامل مع المتورطين والضحايا في هذه الجرائم بدلا من زيادة الطين بلة والمساواة بين الضحية والجاني.
هنالك ضرورة أخلاقية صرفة تقتضي رؤية وتعاملا أكثر انصافا مع الجناة والضحايا في هذه الانتهاكات الكارثية التي تصلح لأنْ تكون محاكمة حقيقية لأخلاقيات وقيم المجتمع!
أمثال تلك القصص والفضائح الخادشة للحياء قبل أنْ تخدش أعراض الضحايا وتلطخ سمعة الجناة من الممكن أنْ تحقق انفجارات أكثر تدميرا وصخبا لدى المجتمعات الشرقية ومن بينها مجتمعنا ولو كانت شائعات، وإنْ أصيب بانفصام حضاري لا مثيل له، والتي يكون عادة للدين والأعراف والتقاليد الاجتماعية فيها دور ووزن أكبر بكثير من المجتمعات الغربية التي تتبنى قيما ومفاهيم مدنية للحريات العامّة والخاصة، فإن تكون ضحية لاستغلال جنسي (لا قدر الله) تتداخل فيه أدوار أطراف خانت أمانتها وانقلبت قبلها على إنسانيتها لهو أمر بالغ الفظاعة والتدمير المعنوي والذاتي والاغتيال للروح الاجتماعية التواصلية الفاعلة لديك مع الآخرين لتعيش ما تبقى لك من أيام مقدرة أسيرا في جحيم العقد النفسية والنبذ الاجتماعي وربما من قبل أقرب أقربائك إذا ما كان انعدام الوعي والوازع الأخلاقي هو سيد الموقف!
ونظرا لما للعرض والشرف من مكانة وأهمية كبرى في المجتمعات البشرية لا داع للتذكير بها ولا يمكن التقليل من شأنها حتى في المجتمعات والبيئات الأكثر احتضانا للدعارة وسقوطا حضاريا وانحدارا أخلاقيا، فقد اجتهد الإنسان منذ العصور الأولى في ابتكار طقوس وتقاليد وأدوات متعددة عسى أنْ تساهم في درء مخاطر التعرض لاعتداء واغتصاب جنسي يودي بالشرف والكرامة أيا كان الموقع من الإعراب الجنائي في جرائم «هتك العرض والشرف»، فهناك من المجتمعات الشرقية والبدائية التي مازالت لها طقوسها البدائية الصارمة والمؤلمة بغرض المحافظة على العفة والشرف كتخييط الأعضاء التناسلية وما سواها والتي تم تجريمها ومحاربتها دوليا!
وبالإضافة إلى ذلك هنالك فتاوى من رجال دين من مختلف أصقاع الأرض توصي النساء والقاصرات بارتداء «أحزمة العفة - “Chastity Belt في حال الخشية من التعرض لاعتداء واغتصاب جنسي في المجتمعات التي تزداد فيها تلك الجرائم بشكل منذر بالخطر، وخصوصا إن كان الأقرباء هم أكثر المتورطين دون الغرباء، ومثل تلك الأحزمة لها من دون شك تاريخها منذ القرون الوسطى حينما كانت تصنع الأحزمة من الفولاذ وتمنح لزوجات النبلاء وقد تطورت صناعتها وأغراضها المرتبطة في أغلبها بالترشيد والوقاية من النوازع الجنسية المهلكة وحتى لاستخدامات لزوم الإغراء والغواية (والعياذ بالله)!
وفي خضم الحديث عن العرض والشرف الذي أصبح مرهونا بالقيمة المالية وقوانين السوق في عصرنا الحالي على وجه الخصوص، فإنّ ذلك الحديث عن ضياع واختلاط مفاهيم العرض والشرف والكرامة ما يُطال بيئات مختلفة رغم تنوعه وتشكله وتعدده بما فيها البيئة الصحافية للأسف التي تزداد أعداد جناتها وضحاياها الذين بلغوا مبلغ الحضيض الاجتماعي إن لم يكونوا هم قد تساووا معه!
القصة النيويوركية البشعة التي رواها الكاتب الأميركي بوب هربرت لها للأسف مثيلاتها في عوالم الصحافة، وللأسف ما أسهل التعرفَ عليها خصوصا إن كان لديك حجم ووزن من الأمثلة يفوق حجم القرائن والعبر والدروس والعظات، فما أكثر الضحايا الذين يتم استغلالهم صحافيا من قبل كبار المتنفذين أبشع استغلال في حرائق تشعل يوميا في وجه القيم والأخلاق والمبادئ والثوابت، ولا أظن أنّ لعامل السن في هذه الحالات دورا كبيرا في تصنيف القاصرين التي يتم استغلالهم صحافيا بشكل لا أخلاقي ولا شرعي، فما أكثر القاصرين معرفيا ولغويا وتربويا، وهناك منهم من أصبح «كبر أمه ولا يطير»، ومنهم من يترنحون و»يتكرفون» بين أكثر من مستغل وأكثر من ملهى صحافي!، كما أن هنالك وجوها صحافية تراها تشع براءة ووداعة «Baby face» من أوّل وهلة، ولكنك ما أن تقرأ لهم وتتعرف بها عن قرب حتى تدرك أنهم يتم تلقينهم وإرضاعهم صحافيا من قبل من «طاح حظهم الصحافي» ومن «طاح سوقهم الكتابي»، فهذه الوجوه رغم براءتها وسطحيتها حد السذاجة إلا أنها تختبر في مسيرتها الصحافية حكمة شعبية عتيقة هي «اليد اللي ما تقدر تدوسها بوسها» بناء على نصيحة الأقدمين في السوق الصحافية رغم أن «اللي انكتب على الجبين لازم تشوفه العين»! فجحيم «الغلمنة الصحافية» قد فتح أشداقه حتى كادت أن تبلغ الآفاق وتصهر الأحداق بأحماضها المنفرة، ولا سن محددة لتحديد صفة «الغلام الصحافي» أكان متأنثا أم مسترجلا، ولكن هنالك حاجة حضارية وأخلاقية ماسة لفتوى شرعية عاجلة تلزم بالحاجة إلى أحزمة عفة صحافية تصون العرض والشرف والأخلاق الصحافية المنتهكة بقوانين السوق وبسلوكيات وعقليات «بارونات السلاح»، وذلك قبل أن يحارب «مشايخ» و»مفتي» الصحافة التي تفضح الفساد والمفسدين وتعري المتاجرين بالدين!
هل سيضيرهم شيئا لو أنهم جربوا قليلا من العفة والشرف الصحافي وإن كان معه قليلا من ملح الفقر، طالما لم تكن هنالك مواثيق وبروتوكولات عقدية ذات شروط جزائية موجعة؟!
إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"العدد 2012 - الأحد 09 مارس 2008م الموافق 01 ربيع الاول 1429هـ