العدد 2011 - السبت 08 مارس 2008م الموافق 29 صفر 1429هـ

العلاقة البغدادية المعجمة بين واشنطن وطهران!

محمد صادق الحسيني comments [at] alwasatnews.com

إنه لمن السذاجة والتسطيح الشديد للأمور القول إنّ زيارة الرئيس أحمدي نجاد لبغداد ما كانت لتتم بهذه السلاسة والنجاح لولا رغبة الأميركيين وتسهيلاتهم الأمنية ورعايتهم المبطنة!

فلو كان هذا الأمر صحيحا لكان الأولى بهم أنْ يرتبوا مثل هذه الزيارة الناجحة لرئيسهم وكبار مسئوليهم الأمنيين والعسكريين الذين كما يفترض هم أصحاب الفضل الأكبر على رجال الحكم العراقي الجديد وليس الزائر «الثقيل الظل» ورمز «الاحتلال» الأخطر على العراق ومستقبله كما يُحاول البعض من فاقدي البوصلة السياسية من رجال العراق الجديد!

أن يعلن أحمدي نجاد برنامج زيارته لبغداد كاملا وجدول لقاءاته بالمسئولين العراقيين قبل أيام من وصوله إليها، فيما يدخلها بوش الابن خلسة وتسللا ومن غير إعلان مسبق، وأحيانا لا يستطيع حتى دخولها فيضطر للنزول في قاعدة عسكرية ومن ثم يَستدعي كبار المسئولين للاجتماع بهم بعيدا عن الأنوار البغدادية الكاشفة!

وأن يسلك أحمدي نجاد الطريق البرية من المطار إلى محل إقامة الرئيس العراقي وفي وضح النهار، فيما لا يتنقل المسئولون الأميركيون من والى العاصمة العراقية وبين أحيائها وضواحيها إلاّ بالهيلوكوبتر!

وأن يدخل أحمدي نجاد المنطقة الخضراء ويخرج منها من دون أنْ تطلق باتجاهها رصاصة واحدة أو صاروخ أو قذيفة هاون أو يعكّر زيارته حادث أمني واحد، وهي المنطقة التي لا تهدأ ساعة واحدة لا في الليل ولا في النهار ولا تخلو يومياتها من حوادث القصف المتكرر بأنواع الأسلحة المتوسطة والثقيلة، إنما هو الحدث بعينه الذي يحتاج إلى الكثير من التأمل والتدقيق والتحليل وإعادة النظر بكثير من التحليلات التي تناولت ما بات يُعرف بالعلاقة المعجمة أو الغامضة بين أضلاع المثلث الذي يشكّل العراق الجديد؛ أي أميركا وإيران وحكّام العراق الجدد!

فإذا كانت أميركا هي القوّة العظمى من حيث قدراتها التدميرية وإمكاناتها القاهرة للإرادة العراقية الظاهرية على الأرض، فهذا لا يعني مطلقا ولا يفيد أبدا بأنها القوّة الآسرة لقلوب العراقيين والقادرة على توجيه عقولهم بالاتجاه الذي تريد أو أنها قادرة على التحكّم بهم في كلّ الأوقات وفي كل المراحل!

عندما قرأت طهران مبكّرا بانّ الأميركيين مصممون على اجتياح العراق واحتلاله وأنه لا مجال لإجراء أية مصالحة بين المعارضة ونظام حكم الرئيس الراحل تجنيبا للمنطقة من حرب ضروس وطويلة الأمد، وإن كل الأجواء العربية المعنية والمحيطة بالعراق أمّا لا حولَ ولا قوّة لها وأمّا أنها مسهلة أو قابلة على مضض بذلك، أو تتمنى لكنها تخجل من الإعلان عن رغبتها برؤية نظام صدام وقد رحل عن بغداد.

قامت طهران باعتماد الخطة «ب» في التعامل مع موضوعة الغزو والاحتلال من جهة وموضوعة المعارضة للنظام والقوى المناوئة للاحتلال من جهة ثانية!

والخطة «ب « كانت في جوهرها تعني التعامل «الناعم» مع الغزو الداهم واعتباره أمرا قائما بالضرورة لا يمكن دفعه بصورة أحادية ولا بالمواجهة الشاملة وهي الخطة التي أخذت طريقها إلى التبلور عشية الغزو والتي كانت بمثابة خلاصة التجربة الإيرانية الطويلة مع كلّ من عراق صدام وعراق المعارضة بأطيافها المختلفة والأميركي القادم إلى المنطقة ليعسكر فيها طويلا وبقبول ورضا عام من جانب النظام الإقليمي كان واضحا ومشهودا له بشكل لا يقبل الشك أو الترديد!

لذلك فعندما كنتُ قد سألت أحد كبار المسئولين المعنيين بالشأن العر اقي بعد عدّة أشهر من الاحتلال عن سبب قبول بلاده بما عُرِف بمجلس الحكم يومها كان قد أجابني في حينه: ومَنْ كنتَ تتصوّر أننا كنا سنختار أو مع من كنا سنتعاون لو كنّا نحن الذين أسقطنا نظام صدام، أو كانت المعارضة العراقية هي التي أسقطته، غير تلك الوجوه التي تعامل معها الاحتلال أو تعاملتْ معه هي؟!

ذلك الجواب هو الذي يفسّر اليوم سر سلاسة ونجاح زيارة أحمدي نجاد إلى بغداد على رغم أنف الأميركيين وليس بضماناتهم و لا بتسهيلاتهم ولا حتى رضاهم ورغبتهم كما يفكّر بعض السذج أو البسطاء أو السطحيين من القوى العراقية أو العربية الحديثة النشأة على المسرح السياسي العربي وذات الخبرة المتواضعة في التعامل مع الأحداث والوقائع الجسام!

ما شرحته آنفا لا يشكّل بالضرورة تبريرا «أخلاقيا» للممارسة الإيرانية السياسية تجاه الملف العراقي، ولا يُعطي تأييدا بالضرورة لصحة تقدير الموقف الإيراني تجاه الأوضاع المتلاحقة على الساحة العراقية، لكنه يقرر ما يمكن اعتباره القدر المتيقن من المعلومات والتحليل اللذين يتنافيان تماما مع ما تذهب إليه تلك التحليلات الساذجة والمحيّرة في نفس الوقت والقائلة بانّ ثمة تواطؤا أميركيا إيرانيا ضد العراق! أو ثمة تفاهما سريا بين واشنطن وطهران على تقاسم النفوذ بينهما على الأرض العراقية!

إنها معركة قاسية ومعقدة ومتشابكة ومتداخلة وفي غاية العجمة والغموض نعم، بين المشروع الأميركي للمنطقة وبين المشروع الإيراني المواجه له يظهر فيما يظهر منه اليوم بعض «التوافق» الظاهري أحيانا وبعض التعارض الناعم أحيانا أخرى لكنه الذي يضطرم دوما بكلّ عنف في مكان ما خلف الستار وفي إطار حرب مفتوحة «ومن تحت الزنار» كما يقولون بين العاصمتين الإيرانية والأميركية، لا تستطيع واشنطن إلاّ الرضوخ لمعادلتها كما هي مرسومة في ما وراء الكواليس والإذعان لموازين القوى المتشكلة على أساسها من دون أن تكون قادرة على أن تنبس ببنت شفة ناهيك عن قدرتها على تخريب زيارة معلنة لرئيس تلك الدولة المتخاصمة معها والتي لا تطيقه وهو في بلاده فما بالك وهو يتجوّل متبخترا في عرينها!

من هنا ثمة مَنْ يعتقد جازما بانّ الذي وفر الحماية والأمن لأحمدي نجاد في المنطقة الخضراء هو نفسه الذي يقود عصائب المقاومة الرئيسية في العراق ولا يسمح للرئيس بوش للوصول إلى بعض نواحي العاصمة العراقية أو أطرافها إلاّ خلسة وتسللا ومن وراء جدر!

إنه نفس المنطق الذي يجعل الإسرائيلي صاحب مقولة الجيش الذي لا يُقهر يبدو مضطرا للانسحاب والجلاء مرة والإذعان لشروط مفاوضات تبادل للأسرى مذلة له في أحيان أخرى وإعلان الإفلاس والهزيمة والإخفاق في تحقيق الأهداف مرة ثالثة أمام صمود وصبر وحكمة ودراية حزب الله!

وليس كما يتفوّه البعض بكلام أشبه ما يكون إلى الهذيان منه إلى المنطق عندما يرددون كلاما ممجوجا عن وجود تعاون أو توافق مصالح بين حكّام تل أبيب وحزب الله اللبناني فقط؛ لأن مفاوضات حصلت هنا أو معادلة رعب أو ردع متبادل حكم صراع الإرادات في هذه المرحلة أو تلك من مراحل الصراع المتعرج !

وهو نفس المنطق الذي يتحكّم الآنَ بمجمل صراعات المنطقة في ساحاتها الإقليمية المتعددة من غزّة إلى بيروت مرورا بالعراق وأفغانستان وصولا إلى معركة تأميم الطاقة النووية الإيرانية!

إنه منطق الصبر على الخصم والعدو وتحمل الكثير من تداعيات جبروته الناري ميدانيا أو»مدارات» بعض سياساته الظالمة والمجحفة إلى حين حلول موعد تجريعه السم الزُّعاف بأقل الاكلاف والأثمان!

إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"

العدد 2011 - السبت 08 مارس 2008م الموافق 29 صفر 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً