يتناول عدد من مثقفي منطقتنا مسألة المساهمة العربية في هذا العصر من تاريخ البشرية باعتبارها مشكلة حين يشددون وبقلق على غياب العرب وذلك من منطلق ضعف الأداء في الحاضر أو تقلصه إلى درجة انتفاء دور العرب على الساحة العالمية.
ومع أن هذا الرأي لا يعاني من صعوبة الارتكاز على أسس قوامها الأمثلة والمفاهيم والأسئلة، إلا أن طرح المشكلة هذه، في كثير من الحالات، يتسم بشيء من الابتعاد عن التعاطي العقلاني معها حين يميل المثقف إلى رؤيتها بمعزل عن صيرورة سياسية اجتماعية تاريخية من جهة، وحين يتضمن تقييمه، بشكل غير مباشر، ما فيه تنكّر لمساهمة الفرد العربي ما لم يكن الأخير يقطن جغرافيا، ويعمل، في المنطقة العربية من جهة أخرى.
من الواضح أن النقطة المحورية للكثير من المدققين في واقع ما يقدمه العرب للعالم اليوم هي مقارنة حاضر العرب بماضيهم وما كان له من أثر، مباشر أو غير مباشر، على العلوم والفلسفة في عصر لاحق. أي استذكار العصر «الذهبي» للعرب في الفترة الممتدة مابين القرن الثامن والثالث عشر الميلادي وما زخم به ذلك العصر من إنتاج في مجالات العلوم عامة: في الكيمياء والطب والبصريات والفلك وغيرها إضافة إلى الفن والفلسفة مقابل عقم إنتاجهم في هذا العصر. بيد أن استحضار هذه الحقيقة قد يلعب دورا سلبيا فيما لو كان يرمي بالمطلق إلى صدم الحاضر بالماضي، وما لم نستحضر، بنفس الوقت، ونؤكد على ما تعلمه قراءة التاريخ من أن أيا من الشعوب لم يكن لينتج بشكل فاعل ومؤثر في مسيرة البشرية وتطورها لولا توفر مجمل شروط ذاتية وموضوعية مهدت، أو سمحت، بحينها بارتقاء هذه المجموعة البشرية أو تلك إلى ما كانت عليه يوما من تقدم ونهضة وحضارة (مع التذكير بأن طبيعة الشروط تتغير أيضا تلاؤما مع متطلبات زمنها). يضاف إلى ذلك حقيقة تاريخية لا يمكن تجاهلها وهي أنه في ذروة عطاءات العرب في الفترة آنفة الذكر لم يكن كل من أبدع وابتكر وأنتج شيئا في ذلك الحين قد ولد عربيا أو في المنطقة العربية لكنه عاش وكتب وقدم اكتشافاته باللغة العربية. إذ كانت الأخيرة حينها لغة النخبة السياسية، ومع ذلك فقد كانت مساهمات هؤلاء المبدعين تنسب للعرب؛ الأمر الذي يقودنا إلى أن نسحب ذلك على واقع اليوم بإضاءة هذا الجانب فيما يخص مساهمات الأفراد العرب ممن يعيشون خارج المنطقة العربية (لأسباب متعددة في طليعتها انعدام الديمقراطية في المجتمعات العربية عامة). إذ يُنسب إنتاجهم في المجتمعات المتقدمة صناعيا والمتطورة ثقافيا وحضاريا بالتحديد إليها فهي من توفر لهم الشروط اللازمة لعملهم. وإذا ما أضفنا أيضا ما نقله العرب تاريخيا من الشعوب والحضارات أخرى عبر الترجمات فإن ذلك يدفعنا إلى تذكر حقيقة أن الفترة المتميزة بتاريخ العرب كانت عهد اتصالات وتبادل بين الثقافات وانفتاح واستعارات في كلا الاتجاهين.
حينما نستعرض ما هي عليه البشرية جمعاء من إنجازات في كل المجالات العلمية والمعرفية وما هو بتناول الجميع في وقتنا الحالي، لا نمتلك إلا أن نبوّب لحقيقة أن ما ينتج عبر التاريخ، من قبل هذا أو ذاك - وحيثما كان - يصبح ملكا للجميع وليس وقفا أو حكرا لفئة ما أو لشعب محدد من دون غيره. ما يعيد إلى الأذهان مشهدا وصفه مراقب غربي بالمحيّر حين نظر إليه للوهلة الأولى لا بتفكير «من يساهم بماذا» بل من زاوية الربح والخسارة للشعوب. ففي مشهد تتداخل تداعيات مدلولاته، حيث يتجمع عدد من الأفراد العرب حول جهاز تليفزيون ياباني الصنع ويراقبون فيلما أميركيا، تعذر على ذلك المراقب الغربي الجواب عن سؤال من يغزو من فيما يراه؟ أهي التكنولوجيا اليابانية المتطورة في جهاز التليفزيون التي تغزو العرب؟ أم أن الثقافة الأميركية في المادة المقدمة تليفزيونيا هي التي تغزو العرب؟ أم العكس تماما؟ أي أن العرب هم من يغزون اليابانيين بحصولهم على التكنولوجيا اليابانية الحديثة بمقابل مالي زهيد مقارنة بالجهد البشري الياباني (والعالمي) في المجال التقني والذي وصل إلى ما وصل عليه من تقدم. كما ويغزون الأميركيين باطلاعهم على المنتج الثقافي الأميركي والذي يعبر عن فكر متطور يأتيهم عبر ذلك الجهاز الصغير وتفصل بينهم وبين أميركا مسافات كبيرة؟ وتداخلت الأسئلة في رأسه أكثر حينما تذكر أن التليفزيون ليس اختراعا يابانيا في الأساس وأدرك صعوبة الجواب عن سؤال يحدد بدقة «مَن يغزو مَن؟» في المشهد الذي رآه وخصوصا عندما فكر بما كان من أثر لما قدمه العرب تاريخيا للبشرية وفي أكثر من مجال، وسرعان ما تخلى عن النظر للموضوع من باب الغزو أو قياسه بأي مقاييس أخرى غير تلك التي تُرجع تاريخ وحياة البشرية جمعاء على مر العصور إلى مساهمات وأخذٍ وعطاء بين شعوب الأرض في جميع المجالات، وأن ما تنتجه فئة من الناس في مكان ما هو ربح للبشرية في أماكن أخرى.
باختصار شديد، يخرج طرح مشكلة المساهمة العربية عن إطار التوصيف البنّاء فيما لو ترافق ذلك بخطاب يمجد بماض غني ويتحسر على حاضر عقيم، إذا جاز التعبير. ولن يكون له من الأثر إلاّ ما فيه المزيد من الشعور بالعجز والتصدع النفسي الفردي والجمعي يتمخض عنه حينا نزعة إلى الانعزال، وربما يلعب ذلك دورا هدّاما فيما لو تم التعرض للمسألة بإلقاء اللوم على «الآخر» النشط الفاعل والبارز بدلا من تشخيصها بشكل دقيق يعزي قصور أو اضمحلال ما تنتجه الكتلة البشرية في المنطقة العربية إلى صعوبات داخلية شتى في طليعتها - كما نوهنا أعلاه - غياب الديمقراطية في الدول العربية والقيود السياسية والاجتماعية عموما، إضافة إلى انعدام عامل الأمن الأهلي في بعض منها، ما يغيّب الكوادر عن بلداننا ويجفف أدمغتها.
* كاتب سوري مقيم في ألمانيا، والمقال ينشر بالتعاون مع «مصباح الحرية
إقرأ أيضا لـ "مصباح الحرية"العدد 2290 - الجمعة 12 ديسمبر 2008م الموافق 13 ذي الحجة 1429هـ