العدد 2010 - الجمعة 07 مارس 2008م الموافق 28 صفر 1429هـ

في غزّة... أم المحارق الصهيونية وأم «المخارق» العربية!

خالد المطوع comments [at] alwasatnews.com

احتوى المقال البارز الذي تميّزت به صحيفة «الإندبندنت» البريطانية بتاريخ 3 مارس/ آذار 2008 بشأن الأوضاع الكارثية التي تسببت بها المحارق الصهيونية في غزّة على عدد من النقاط والمقاربات الرئيسية التي لا يمكن أنْ يتم الإغفال عن تناولها وبحثها من قبل كل مطلع سياسي واستراتيجي حصيف.

تطرق المقال في بدايته الى عمل مقارنة تاريخية بين مآلات الأوضاع في إقليم كوسوفا الذي تعرض أبنائه للمذابح العرقية والإبادات الجماعية على أيدي القوات الصربية، وكيف قادت بعدها الولايات المتحدة الأميركية بالتعاون والتنسيق مع حلفائها حملة عالمية صارمة لإيقاف صربيا ميلوسوفيتش عند حدودها، ومن ثم تم إيداع الأخير زنزانة مجرمي الحرب التي توفي فيها لاحقا، وكانت الولايات المتحدة أيضا من أوّل المبادرين بالاعتراف باستقلال إقليم كوسوفا هي وعدد من الدول الأوروبية!

في حين أنّ الدبلوماسية الأميركية والغربية والأمم المتحدة اتخذت موقفا غاية في السلبية والتواطؤ، وهو موقف متوقع أساسا، مع المحرقة الصهيونية في غزّة، ومثل تلك المقارنة الحتمية تدلل من دون أدنى شك على أنّ النظام الدولي الأحادي القطبية لم يكن قط يُعطي اهتماما لانتهاكات حقوق الإنسان بالحجم والصورة والنوع، وهو لم يكن يمنح اعتبارا للانتماءات الأولية المتعلقة بالدين والمذهب وإنْ تدبّج بها في كثير من الأحيان وانحنى في منحنيات أيديولوجية فارطة، فيبقى ما يعوّل عليه أساسا هو عين المصلحة الاستراتيجية ذاتها للقطب الأوحد وإنْ كان هذا الاهتمام والوسواس الاستراتيجي القهري يسير أحيانا ضد نفسه حينما يأتي دعم العصا الصهيونية الضاربة بالضرر على المصالح الأميركية ذاتها!

ولا يخفى عليك عزيزي القارئ بأنه ومثلما ساهم إعلان قيام كوسوفا المستقلة في تحقيق انتشاء أميركي وعربي وإسلامي «مشترك»، فهو على ذات الصيرورة أدى إلى حدوث انقسام حاد ومؤثر في بنيان الكيان الأوروبي الموحد والقطب الاستراتيجي الواعد بما رافقه من توترات لدى إسبانيا وبلغاريا واليونان وغيرها من الدول من إنعاش دعوات الأقليات الانفصالية داخل هذه الدول!

وعكس المقال بمنتهى الصراحة والوضوح المكلف جدا للصحيفة البريطانية في بيئتها العامّة تعاسة المشهد الحالي في تعامل «السلطة الفلسطينية» و»المجتمع الدولي» مع المحرقة الصهيونية في غزّة بدءا من اعتبار أنّ ما جرى إنْ هو إلا مذبحة استهدف فيها المدنيين الفلسطينيين حيث قتل ما بين 54 و61 شخصا في يوم واحد بما فيهم الكثير من الأطفال والمدنيين في حين وقف «المجتمع الدولي» في موقف المتفرج وكان لـ»مجلس الأمن» مواقفه المعتادة والمخزية تجاه محرق غزّة الذي اكتفى بوصفها بـ«رد فعل إسرائيلي مفرط»!

وأشار إلى المأزق الإفلاسي الحرج التي وصلت إليه «مفاوضات السلام» في ظل إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش الابن، والذي اعتبرته الصحيفة أكثر الرؤساء الأميركيين الذين ساهموا تاريخيا في زيادة الوضع سوء بشكل غير مسبوق، في حين تتحين سلطة محمود عباس الإطاحة بـ«حماس»/غزّة، ولذلك لن يوجد هنالك من أيّ داع لحث الفلسطينيين على القبول بالسلام مع جلادهم وقاتلهم ومبيدهم طالما أنّ ما حدث في غزّة لم ولن ينمحي أبدا، وتمنى المقال أيضا أنْ يكون الرئيس الأميركي القادم هو الأمل في تحسين الأوضاع والنهوض بحال الدبلوماسية الأميركية!

ولكن ماذا بالنسبة لفعاليات واستجابات منظمات المجتمع المدني والمجتمع الأهلي في سياقنا المحلي أو المُحلى بالشعارات تجاه تلك التحديات الإنسانية والقومية الجسام؟!

كانت وستكون بالأحرى الردود والتفاعلات لا تقل للأسف في بؤسها وتعاستها على بؤس وتعاسة المشهد الذي تدخل فيه أنظمة الغنيمة العربية وعروش البؤس الراهن و»المجتمع الدولي» على رغم الاختلافات والخلافات المبدئية الفاقعة، وهي بلا شك تجلى كم نحن مفلسون وفقراء سياسيا ومدنيا وهو أمر طبيعي جدا بحكم البيئة والمحيط والظرفية التاريخية!

كان هنالك بالطبع بيان «كلاسيكوي - رومانتيكوي» أصدره رهْط ٌمن الجمعيات السياسية حمّل فيه النظام العربي الرسمي «المسئولية» عن ما آل إليه الوضع في غزّة لكأن النظام العربي الرسمي كان أو سيظل جزءا من المسئولية القومية أساسا، لندخل ربما في حلقة مفرغة من خلع وتحميل المسئوليات بين مختلف الأطراف، فالمنظمات تحمل الأنظمة، والأنظمة تحمل الصهاينة والمجتمع الدولي أو أن الاثنين الأخيرين ويحتمل أن يكونوا ثلاثة يحملون «حماس» وخيار الشعب الفلسطيني الشرعي والديمقراطي مسئولية ما آل إليه الوضع في غزّة، وربما يجوز العكس أيضا في الحلقة المفرغة لتحامل وتحميل المسئوليات على بعضها بعضا!

ثم ماذا بعد؟!

كانت وستكون هنالك أوشحة التضامن الفلسطيني «الغترة» التي من فرط ما لفت وابتذلت بين الجميع «شريفهم» و»نذلهم» أصبحت وكأنما هي مناديل أم كلثوم وفيروز أو «روج» نانسي عجرم ونوال الزغبي، فهي ربما ماركة استهلاكية وعلامة لشهادة «آيزو» سياسية شعبوية!

ثم ماذا؟!

ستكون هنالك دعوات لمقاطعة البضائع والمنتجات الإسرائيلية والأميركية مع استحضار ذات «الدستة» وذات «اللستة» المكررة من الأرقام والإحصاءات في كلّ شاردة وواردة، واستحالت هذه الأرقام حروفا صنمية وزخرفة إنشائية من فرط مغادرتها لمنطقها ومنطقتها الرقمية المتحوّلة والمتبدلة باستمرار، ولكن هل ستغادر بنا تلك المقاطعة المنشودة بمبدئياتها الصرفة منطقة ومجال السالب فيما يعني أنّ هنالك اكتفاء ذاتيا متحققا أو استراتيجية متماسكة وعملية وواقعية لأمن غذائي إقليمي؟!

وهل ستدرك تواكب تشابك المصالح الاقتصادية الاستثمارية التي تتخذ بعدا مصيريا حاسما بين أطراف المقاطعة بفضل سياسات واستراتيجيات رسمية تاريخية متبعة بتواشيح لا نظير له!

ومن ثم ماذا؟!

لا ننس أن هناك مشروعات الإغاثة البالغة الرثاثة التي وإن كنّا لا ننكر أنها تساهم بحسب منظميها ومعديها «جزاهم الله خيرا على قد جواهر نيّاتهم» في تخفيف المعاناة ورفع معنويات أشقائنا المرابطين في غزّة وفي سائر فلسطين المحتلة، إلا أنها لا تعدو في النهاية عن كونها عمليات تسخير سياسي وأيديولوجي و»تنفيع» اتكالي لا أوّل له ولا آخر، فهي تخدم مشكلة ولا تخدم قضية أبدا، وإنْ تاجرت بها في المجلدات والمجالدات الانتخابية الملوّنة كما يحدث عادة في سياقنا المحلي!

وماذا بعد ذلك؟!

قد تكون هنالك مظاهرات ومسيرات ومسايرات واعتصامات كثيرة في أحسن الحال إلاّ أنه على أنظمة الغنيمة العربية وعروش البؤس الراهن ألا تقلق ولا «تزعل» فتلك المظاهرات أقرب منها إلى فوران الماء في أنظمة المواسير من دون أن تتشرخ تلك المواسير مهما بلغ حجم الهيجان، وأشبه بفوران القهوة السوداء الطفيف في الفنجان حال رمي «قندة» صناعية بداخله من دون أن ينقلب الفنجان، وكل ما يهم الأنظمة فقط في النهاية هو أمر صيانة المواسير لا تنقية الماء الذي قد يحمل من «عكارة» ما قبل الأزل كما يهمها أيضا أمر الفنجان «الأنتيك» المذهب الأطراف دون صروف القهوة!

وهل من مزيد؟!

ستكون هناك على ضفاف أخرى تسربات سوداء للوقاحات التطبيعية ذاتها من دون أن توقفها عند حدها بطولات الصراخ والعويل، فتلك النخب التطبيعية المأزومة التي هرمت وعفنت مبكرا لم تتجرأ قط على محاكمة «مفاوضات السلام» بشكل موضوعي ومحايد يأخذ في الاعتبار عبثيتها أو سمتها الرئيسية الطابعة، أكان «سلام الشجعان» أم «سلام البغال والخرفان»؟!

وهم قد لا يدركون بأنه لو طال القصف وتواصلت المحارق الصهيونية سيكون ذلك أفضل بكثير للشعب الفلسطيني الذي ستتراص صفوفه وتتوحّد وطنيا فهو أكثر شعوب الأرض قاطبة تمسكّا بإرادة الحياة والنماء مهما اختلفت التصاريف، وذلك أفضل من أنْ يرهن هذا الشعب في العبثيات القذرة لـ»مفاوضات السلام» التي عاد إليها الرئيس عباس وزمرته الدحلانية الميليشياوية مجددا في جوارب الخفاء، فبمثل تلك المفاوضات والإملاءات من طرف واحد خسر الشعب الفلسطيني الكثير والكثير من سيادته وكرامته وكانتونات أرضه من دون أن يحرز مكسبا سياسيا واستراتيجيا يضاهي حجم تلك الخسائر السيادية أو «يرقعها» على الأقل!

أعجبني ما كتبه أستاذنا الكبير فهمي هويدي بشأن ذلك مستشهدا بكتاب للباحث الفلسطيني المرموق منير العكش: «من مفارقات الأقدار وسخرياتها، أنّ «اتفاقيات السلام» التي بلغ عددها 120 اتفاقا، كانت الكمائن التي نصبها المستوطنون الإنجليز لتخدير الشعوب والقبائل الهندية قبل الانقضاض عليها واستئصالها» كما وأضاف «يزيد من تقديرنا لصمود الشعب الفلسطيني ونضاله أنّ معركته أعقد وأكثر شراسة من معركة الهنود الحمر. فعلى الأقل الهنود كانوا يواجهون قوة محلية تمثلت في ميليشيات المستوطنين الإنجليز. أما الفلسطينيون فإبادتهم وإذلالهم اشتركت فيها مع «إسرائيل» قوى دولية نافذة وإقليمية متواطئة، وقوى محلية مهزومة»!

فهل سنختلق بدائل أخرى دون بدائل «أم المخارق» العربية المعتادة من جميع القوى، أم سنكتفي باختلاق الأعذار؟

إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"

العدد 2010 - الجمعة 07 مارس 2008م الموافق 28 صفر 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً