خرج به أبوه عبدالمطلب سيد قريش إلى يثرب خاطبا، من وهب بن عبد مناف سيد بني زهرة، فزوّجه ابنته آمنة، فحملت حملا خفيفا، وقبل أن تضع مولودها غيّب الموت زوجها الشاب من الوجود.
لمّا وضعته أرسلت إلى جدّه أن قد ولد لك غلامٌ فائتِهِ فانظر إليه، فحمله ودخل به الكعبة، فقام يدعو الله ويشكر له ما أعطاه، ثم عاد به إلى أمه ليلتمس له المراضع. وكانت نساء البادية يأتين إلى أطراف مكة يلتمسن الأطفال لرضاعتهم وتربيتهم لقاء أجرة. ولأنه كان يتيما زهدت فيه المرضعات، فكان من نصيب حليمة السعدية، التي عادت به إلى مضارب قومها المجدبة، وهي لا تدري أنها ستدخل بفضل هذا اليتيم سجل الخالدين.
وهكذا نشأ محمد (ص) في البادية، ولمّا بلغ السادسة خرجت به أمه إلى يثرب لتزور أهلها، وفي طريق العودة توفيت بمنطقة يقال لها الأبواء. ولما بلغ الثامنة، خطف الموت جده عبدالمطلب، فتولى كفالته عمّه أبوطالب.
ولما بلغ الخامسة والعشرين تزوّج خديجة بنت خويلد، وهي امرأة في الأربعين، ذات شرف وحزم ومال. قبلت به لمّا بلغها من صدق حديثه وعظم أمانته وكرم أخلاقه، وبعد أن جرّبته بالمتاجرة بمالها في رحلته إلى الشام. وعاش الزوجان في هناء وسعادة، حتى أنجبا عددا من البنين والبنات.
أمّا مكة فقد كانت بلدة صغيرة يأتيها الحجيج من أطراف الجزيرة، على ما تبقّى من آثار إبراهيم (ع)، الذي زرع بذرة التوحيد في هذه المنطقة النائية قبل آلاف السنين، وظلت سلالته تتوارث رفادة البيت ورعاية الحجيج، وبقيت منهم قلةٌ محافظةٌ على دين أبيهم إسماعيل (ع) تعرف بالأحناف، وسط بحر من الوثنية وعبادة الأصنام.
من بين هذه القلة... كان محمد (ص) الذي اعتاد الخروج إلى غار حراء يتهجد ويتأمل في أحوال العالم والبشر والملكوت... حتى نزل عليه الملاك جبرائيل يدعوه إلى القراءة، فيقول وقد أخذته المفاجأة: «ما أنا بقارئ»! فيكرّر عليه: «اقرأ باسم ربك الذي خلق* خلق الإنسان من علق* اقرأ وربك الأكرم* الذي علّم بالقلم* علم الإنسان ما لم يعلم» (العلق: 1-5)، وهكذا نزل من غار حراء... ليبشّر العالم بالخروج من قرون الظلمات إلى عصر النور. وفي المنزل الصغير... كانت خديجة أول من استجاب للرسالة الجديدة. آزرته وساندته بكل جوارحها. وسرعان ما اجتمعت حوله الفراشات التواقة إلى الحرية والحقيقة والضياء، فيما وقف بوجهه جبابرة القوم والمترفون وعتاة البشر.
ثلاثة وعشرون عاما قضاها يكافح الوثنية والاستعلاء، ويبشّر بعهدٍ لا يعترف بفضل عربيٍّ على أعجميٍّ إلاّ بالتقوى، ليشهد العالم أكبر تجربة إنسانية أممية فاضلة، تزدهي بأسماء العبيد السابقين، سلمان الفارسي وصهيب الرومي وبلال الحبشي الذين أصبحوا أسياد العالم.
بعد ثلاثة وعشرين عاما من الجهاد الذي لا يهدأ... والكفاح الذي لا يكل آن للعينين القدسيتين أن تهدآ في مثل هذا اليوم، من العام الهجري العاشر، ووقف على قبره شاعره حسان بن ثابت يرثيه:
فبوركت يا قبر الرسول وبوركت بلادٌ ثوى فيها الرسول المسدّدُ
وهل عدلت يومــــــا رزيةُ هـــــــــالكٍ رزيـةَ يومٍ مات فيه محمدُ؟
فما فقد الماضون مثل محــــــــــمدٍ ولا مــثله حتى القيامة يُفقدُ.
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 2009 - الخميس 06 مارس 2008م الموافق 27 صفر 1429هـ