مهما حاولت القيادة السياسية في طهران التقليل من أهمية القرار 1803 الذي صدر عن مجلس الأمن بشأن مشروع «التخصيب» فإن الفقرات «الناعمة» تضمنت إشارات خطرة لابدّ من الانتباه إلى تداعياتها الميدانية في حال قررت واشنطن اللجوء إلى سياسة تفتيش السفن والطائرات المتوجهة من وإلى إيران.
الفقرات ليست خشنة ولكنها تحتمل قراءات في نصوصها القابلة للتأويل تضيف بعض النقاط الحساسة التي يمكن استغلالها لتوسيع نطاق العقوبات والتضييق على تجارة إيران الدولية والاقليمية. ملحقات القرار مثلا ادرجت 12 اسما لجنرالات وتجّار وعائلات في لائحة المراقبة وأضافت إليها 12 أسما لشركات ومصارف ومؤسسات تصنيع أو استيراد وتصدير في لائحة آخرى تعطي الحق لمطاردتها المالية على مختلف المستويات.
ملاحق القرار 1803 تعطي ذاك الزخم المطلوب لتنشيط عمليات المراقبة والملاحقة بذريعة مخالفة القوانين الدولية. والقرار الجديد يعتبر الثالث في أقل من سنتين. وفي حال جمعت نصوص القرارات الثلاثة تتشكّل في الأفق السياسي مجموعة فقرات تشمل مختلف الميادين التي تقطع على طهران إمكانات التحرك المستقل خارج سياق المراقبة الدولية. وهذا النوع من العقوبات الناعمة يرجّح احتمالات التصعيد إلا إذا وافقت طهران على شروط وقف مشروع التخصيب والعودة إلى فتح باب التفاوض مع الولايات المتحدة تحت سقف التهديد بتطبيق سياسة تتجّه رويدا نحو حصار طويل الأمد يشبه ذاك المضروب حول جزيرة كوبا منذ الستينات أو كوريا الشمالية منذ الخمسينات.
احتمال استخدام «العقوبات الناعمة» يبدو هو المرجّح في المدى المنظور وهذا ما أشار إليه السفير الروسي في الأمم المتحدة فيتالي تشيركن حين نصح طهران بالتخلّي عن نشاطات التخصيب، معتبرا أنّ القرار الثالث أعطى الحافز الإضافي «لتصحيح الأمور في علاقاتهم مع الولايات المتحدة». السفير الروسي ينصح إيران بتصحيح العلاقات مع أميركا. وهذه النقطة بحد ذاتها تستحق القراءة بعد أن حصد القرار 1803 موافقة 14 من 15 دولة في مجلس الأمن.
النصيحة تفتح الباب للتساؤل عن معنى دعوة روسيا طهران للتفاهم مع واشنطن بشأن التخصيب في وقت يفترض أنْ تلعب موسكو دور المعطل لإمكانات التقارب الأميركي - الإيراني.
هذه النقطة الغريبة في مادتها الدبلوماسية تتطلب قراءة موسعة للمشكلة. فالقرار صدر تحت الفصل السابع معتمدا المادة 41 التي تحصر العقوبات بإجراءات غير عسكرية... وهذا يعني أنّ اللجوء إلى خيار القوة غير وارد وبالتالي لابدّ من اعتماد الخيار الدبلوماسي المترافق مع تشديد الضغوط الاقتصادية والمالية.
إلغاء الخيار العسكري لا يمنع التشدد والضغط السياسي تحت سقف عقوبات دولية توافق عليها أعضاء مجلس الأمن من بينهم عواصم كانت طهران تعتمد عليهم. جنوب إفريقيا وليبيا وفيتنام صوتت لمصلحة القرار. اندونيسيا هي الدولة الوحيدة التي عارضت. بينما اتجهت الصين وروسيا إلى دعم الموقف الأوروبي (الفرنسي - البريطاني) بشرط تعديل بعض الفقرات القاسية التي تعطل قنوات الصداقة مع إيران.
الصين وروسيا
الموقف الصيني - الروسي يشكّل حجر الزاوية في صدور القرار 1803 وفي الآنَ لعب دوره في تخفيف حدة فقراته وتشذيب قساوته حتى جاء في صيغة «ناعمة» ولكنها قوية في حال ارادت أميركا ترجمتها ميدانيا. فالقرار غير خشن في إطاره العام ولكنه تضمن فقرات تجيز للدول الكبرى التدخل في نقطتين مهمتين على صعيد التجارة الدولية. الأولى تمنع استيراد موادّ أو معدات تصلح للاستخدام المزدوج (مدني وعسكري) وهذه النقطة غامضة وتحتمل الكثير من المعاني ويمكن اعتمادها لتوسيع المقصود بالجوانب العسكرية للأجهزة والسلع المستوردة.
والثانية تسمح «بتفتيش الشحنات المتوجّهة إلى إيران أو القادمة منها شرط أنْ تكون هناك مبررات معقولة للاعتقاد بأنّ الطائرة أو السفينة تنقل بضائع محظورة». ومسألة مراقبة «البضائع المحظورة» بموجب القرار تفتح الموضوع على التباسات لا يمكن حصْرها في حال قررت الدول الكبرى (أميركا تحديدا) الإفراط في استخدام الفقرات الغامضة. فالقرار يمنع اللجوء إلى القوّة ولكنه يعطي صلاحية دبلوماسية لتفتيش الطائرات والسفن. والدبلوماسية التي تبدأ عادة ناعمة يمكن أنْ تنزلق إلى خيار عنيف في حال رفضت إيران مثلا السماح بتفتيش السفن والطائرات أو مصادرة شحنة من البضائع المستوردة.
عوارض هذه النقطة يمكن أنْ تساعد على تفسير الموقف الروسي - الصيني وتلك النصيحة التي قدّمها سفير موسكو في نيويورك للجانب الإيراني. فالدعوة إلى التفاهم مع أميركا جاءت في معرض تنبيه طهران من سلبيات الاستخفاف بفقرات القرار «الناعم». فالنعومة الظاهرة تتضمن خشونة في التعامل الميداني (البحري والجوي) مع السفن والطائرات و»البضائع المحظورة» ذات الطبيعة المزدوجة في الاستخدام. وبما أنّ كل المعدات والأجهزة المدنية يمكن تطويعها للاستخدام العسكري تصبح احتمالات التأزم في مقدّمة الترجيحات إذا رفضت طهران التجاوب مع حملات التفتيش الجوية والبحرية.
النصيحة الروسية إذا لم تأتِ من فراغ أو من باب التواضع أو التخلّي عن حقوقها (الجار الجغرافي والصديق السياسي لطهران) وانما جاءت للتنبيه من خطورة الاستهتار بفقرات القرار والانزلاق نحو تفسيرات لا تأخذ في الاعتبار موازين القوى وتلك المتغيرات التي طرأت على مواقف بكين وموسكو في الأشهر الآخيرة.
محور الصين - روسيا، إذا صح التعبير، لم يغدر بطهران وهذا ما ظهر من خلال تلك الإشارات التي اطلقها الكرملين في الأسابيع الماضية وكشفت عن وجود توجه لدى موسكو نحو الموافقة على القرار الدولي الجديد وتمريره من دون اعتراض. وأهم تلك الإشارات كانت مسارعة روسيا إلى إرسال كلّ الشحنات اللازمة (80 طنا) لتشغيل محطة بوشهر. وشكلت الخطوة بداية مسار يوضح أن موسكو اوفت بالتزاماتها ولم يعد هناك ذريعة لطهران تعتمد عليها لتبرير تخصيب اليورانيوم. بعد ذلك انتقدت روسيا مشروع الصواريخ الإيرانية وأبدت تخوّفها من تطوير برنامجها الفضائي ردا على إعلان طهران عن نجاحها في إطلاق القمر الاصطناعي. بعدها أبدت موسكو انزعاجها من تطور التنسيق الأمني الأميركي - الإيراني بشأن الملف العراقي. والانزعاج أشار إلى وجود مخاوف روسية من انقلاب التحالفات ودخول المنطقة في محاور إقليمية - دولية تغيّر قواعد اللعبة وتعرض أمنها الحدودي (القومي) للخطر العسكري أو الحصار السياسي.
موافقة الصين وروسيا على فقرات القرار 1803 الناعمة خطوة ليست بسيطة في معادلة إيران الدولية والإقليمية وهي مسألة تتطلب قراءة دقيقة وتستحق دراسة جوانبها من مختلف الجهات بما فيها تلك النصيحة الغريبة من نوعها التي تقدم بها السفير الروسي في الأمم المتحدة للقيادة السياسية في طهران.
الاستخفاف بالقرار الدولي المعطوف على قرارين سابقين وملاحق تفصيلية ليس هو الجواب الحكيم. فالمطلوب فعلا إعادة القراءة ودراسة كلّ الفقرات بدقة وربطها بتلك التي وردت في القرارات السابقة حتى يمكن تشكيل رؤية استراتيجية عامّة تتجاوز تلك التصريحات المتسرعة التي قللت من أهمية القرار 1803.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2008 - الأربعاء 05 مارس 2008م الموافق 26 صفر 1429هـ