يتحدث المسئولون الصهاينة - بتفاخر واعتزاز ويتغطرسون بما يفوق الأوصاف - عن أن الفلسطينيين على موعد مع محرقة في غزة، وأن المحرقة قادمة ولا ريب فيها، وأن ليس من حدوث تلك المحرقة والإبادة المستعادة والمتجددة في حق الإنسان ما يحدث خجلا وعارا لديهم!
وربما ليس في ذلك ما يدعو للاستغراب والتعجب لدى من خبر واطلع على كل الأشكال الاستخداماتية المعولمة لـ «المحرقة النازية» بكونها أداة ابتزاز هجومي سافر ضد كل من يتجرأ على نقد المحارق الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني، ولمن أدرك حقيقة الدور الصهيوني التاريخي المتواطئ بامتياز مع القيادات النازية في المحارق «الهولوكوست» التي راح ضحيتها الكثير من اليهود الأبرياء الذين كانوا يطلق عليهم في المعتقلات النازية مسمى تصنيفي هو «مسلم» أو «ميزلمان» بالألمانية، حسبما توصلت إليه الجهود البحثية للمفكر عبدالوهاب المسيري الذي نشرها في مجلة «وجهات نظر» في العدد (104). ولم يكن ذلك إلا بهدف التحفيز إلى الهجرة الجماعية إلى «أرض الميعاد» عبر مزيد من التضييق والطرد من الإنسانية!
ألم يقل ديفيد بن غوريون في 7 ديسمبر/ كانون الأول 1938: «لو كنت أعلم أن من الممكن إنقاذ حياة جميع الأطفال اليهود في ألمانيا عبر نقلهم إلى بريطانيا في مقابل إنقاذ نصف الأطفال عبر أخذهم إلى أرض (إسرائيل)، فإنني سأتبنى الحل الثاني، حيث يجب علينا أن نأخذ في حسباننا ليس فقط حياة هؤلاء الأطفال وإنما تاريخ شعب (إسرائيل)»!
لا حاجة لهم إذا إلى أن يعدوا الفلسطينيين في غزة وغيرها بالمحارق تلو المحارق، ولا حاجة لمسئولي هذا الكيان العنصري البغيض إلى أن يعرّفوا العالم أنفسهم وهويتهم الفردية وهوياتهم العصابية المأخوذة بالحقد والتشفي والاغتصاب والنهب لكل ما هو إنساني وحضاري. فما يجري في غزة هو جريمة إبادة بشرية منظمة ضد جميع القوانين والأعراف والشرائع الإنسانية المعروفة والمعلقة إلى إشعار آخر. وأمام تلك المحارق البشرية الوجودية وأمام ضحكات الأطفال الفلسطينيين المخضبة دما بعد أن اغتصب الحريق براءتها لا حاجة إلى التذكير بسقوط وإفلاس وتواطؤ أنظمة الغنيمة العربية وعروش البؤس الراهن، وبسقوط المجتمع الدولي وغيره من هيئات ومجسمات دولية لم يعرف عنها قط سوى ازدواجية المعايير وازدواجية التماشي مع الأهداف والأهواء السياسية والاستراتيجية المكشوفة!
لعل ما أعجبني صراحة اتفاق والتقاء عدد من الصحف على تبني مصطلح «محرقة» في وصف ما يجري من إبادة بشرية في غزة وذلك اقتباسا من تصريحات المسئولين الصهاينة أنفسهم. فذلك يشير إلى حاجة ماسة إلى أن تكون هنالك مواقف حازمة وإدراكات فعلية ومؤثرة تساهم في تثبيت الأقلام والأقدام في حروب المصطلحات والصور التي تعد من دون شك المعارك الأكثر أهمية وإهمالا في لحظاتنا الراهنة!
وعلى رغم وجود بصيص أمل يتمثل في الحراك الأكثر عملية وعقلانية لمنظمات المجتمع المدني العالمية المناهضة للعنصرية ضد محارق الكيان الصهيوني في فلسطين كالتحركات التي قامت بها المنظمة اليهودية العالمية المناهضة للصهيونية (ناطوري كارتا)، ومبادرات المؤسسات الأكاديمية والجامعات البريطانية لمقاطعة الكيان الصهيوني، فإنه مازال للأسف هنالك في البقاع العربية منشأ متواصل لتلك الوقاحات التطبيعية سواء على صعيد الخطاب الرسمي والخطاب النخبوي حتى الخطابات الشعبية بشكل غير مسبوق في مختلف المحافل والمجالس والمنتديات والملتقيات من دون أن تلقى أدنى استنكار واستهجان شعبي على ذلك!
الحديث عن قضية وجودية ومصيرية أصبح من إحدى مراحلها محارق غزة والإبادة المنظمة للإنسان الفلسطيني لابد أن يتوقف مليا أمام مصائب النخب العربية المزمنة والطارئة منها، فهناك من النخب الآيديولوجية من يحلو له على الدوام أن يحمّل المسئولية كاملة لـ «حماس» فيما آل إليه الوضع، ويحاول دوما أن يعزف على وتر «شرعية» الرئيس الفلسطيني محمود عباس من دون شرعية الحكومة الفلسطينية المنتخبة شعبيا والمقالة. وقد علّمتنا وأرشدتنا ظروف الوضع الفلسطيني من حصار غزة واستهدافها بالمحارق والتفاف أهلها حول بعضهم بعضا أن إسماعيل هنية أوشك على أن يكون في هذه المعركة الوجودية زعيما لكامل الأمة الفلسطينية والعربية والإسلامية والإنسانية من عباس وزمرته الدحلانية الأقرب إلى كونهم الميليشيا المتربصة بإحراق «حماس»/ غزة وتخريبها ووضع الشروط التعجيزية المسومة سياسيا وفوقيا لزيادة الحصار على «حماس»، والاكتفاء بإيقاف طبخة عملية السلام العبثية مع الكيان الصهيوني التي لاتزال على رغم ذلك قد طبخت جيدا على نار هادئة، وهي باتت تخفي بداخلها ما تخفي من أجندة مساومة مصيرية غامضة عن الشعب الفلسطيني وشعوب المنطقة والعالم أجمع!
وفي سياق الحديث عن بؤس الجماهير و «الشارع العربي» وأزمتها المستحكمة وازدواجيتها المبهمة في التعامل مع مختلف الأزمات والمحن وعجزها عن ترتيب الأولويات المصيرية فإننا نجد أبلغ توصيف لهذه الحالة ما سطره قلم الباحث الفلسطيني خالد الحروب في صحيفة «الاتحاد» الإماراتية في 3 مارس/ آذار 2008 حينما كتب:
«ما هو (باروميتر) تحرك (الشارع العربي) و(الإسلامي) أيضا، ولماذا ينتفض من المحيط إلى الخليج ضد رسام كاريكاتير أرعن في الدانمرك ويخلق قضية من لا شيء، ويسيِّر المظاهرات والاحتجاجات التي يسقط جراءها قتلى وجرحى، ثم يلفه صمت القبور إزاء قضية حقيقية مثل (المحرقة) الدائرة ضد الشعب الفلسطيني في غزة هذه الأيام، ما عدا بعض التحركات الخجولة هنا وهناك؟».
ومثل هذه الأسئلة الحيرى من حقها أن تقودنا إلى مشاهدَ حقيقيةٍ لجموع تعد بمئات الآلاف لتخرج في مسيرة «عرمرمية» لا مثيل لها لمطالبة سياسية معينة أو لرفض إملاءات سياسية معينة تحت زعامة رجال الدين وهي لا تعدو أن تبلغ مثقال خردلة أمام مستلزمات الخروج احتجاجا على معركة الإبادة البشرية الكبرى في غزة ومحارق الصهيونية العالمية وتواطؤ وخذلان الأمم التي رمت أقنعتها القيمية والحضارية في مزبلة التاريخ!
أو مشهد آخر مثلا لمناضل ذي سبع نجوم دخل غزة خلسة بخوذة صلاح الدين وخرج منها حاملا راية «أبغي أبوي، أبغي أمي، أبغي معاشي»، وهم كل ما يعرفونه ملء بطن الشعب الفلسطيني وحشوه بسفيه الأغذية، وزيادة الطين والطنين السياسي بلة بانحشاراتهم المتأدلجة لكنما هم بذلك يسمنون خرافا تنتظر الذبح في أعياد المساخر القومية والدينية والآيديولوجية!
أو عن أدوار نخب لم تحترف إلا إهداء الأبيات والمقطوعات و «الأوبريتات» والأطباق الخيرية الشهية إلى دماء الشعب الفلسطيني والأمة الإنسانية جمعاء!
أفلا نستحق إذا خارطة طريق لتخليص النخب والشارع من عقده وأزماته وصرعاته؟ أم هي خارطة طريق لإرشادنا إلى إنسانيتنا التي يبدو أننا لم نعد نستحقها؟ فغزة لم تكن حتى في عيوننا «طزة» كفيلة بإشعال الدمع والمهج والأرواح، ولا أظن أن حتى طلقة نارية في الأحداث ستكفي لفعل ذلك مع تبلد الحس وتشوش الفكر على مصارع الهويات والإنسانيات، على رغم أن هناك شعبا لم يفده ركام الأنظمة والتشريعات والفلسفات والأفكار والآيديولوجيات والقواعد الحقوقية والقانونية منذ مطلع البشرية حتى وقتنا الحالي!
إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"العدد 2008 - الأربعاء 05 مارس 2008م الموافق 26 صفر 1429هـ