الصراع على هوية لبنان مسألة راهنة يعاد إنتاجها في كل حقبة زمنية منذ إعلان دولة «لبنان الكبير» في العام 1920. المسيحيون عموما يعتبرون أن لبنان يعرف بنفسه. هويته التاريخية ثابتة لم تتغير وهي سرمدية أبدية أزلية تبلورت منذ ثلاثة آلاف سنة. ومساحة الهوية الجغرافية تمتد وتتقلص. مرة تتجاوز الحدود ومرة تتقلص. وعلى رغم اختلاف المساحة بقيت الهوية ثابتة لا تتغير. فلبنان هو لبنان ويعرف بذاته: أنه لبنان اللبناني.
المسلمون عموما يعتبرون أن لبنان يُعرَّف بغيره. هويته ليست ثابتة وتتغير بتغير موازين القوى الديموغرافية والدولية والإقليمية. إنها متحركة تبعا لظروف المنطقة وعلاقة الدولة بالمحيط الجغرافي - التاريخي. مرة تكون سورية ومرة عربية ومرة إسلامية. فإلى جانب لبنان اللبناني هناك لبنان العربي ولبنان الإسلامي، وداخل البلد الواحد هناك أكثر من لبنان.
الصراع على تعريف الهوية ليس صراعا مفهوميا. إنه أصلا صراع مصالح يعيد تركيب نفسه وفق صيغ أيديولوجية متنافرة ومشرذمة على عدد الطوائف. كل طائفة لبنانية لها مفهومها الخاص ورؤيتها المستقلة للصيغة والاستقلال... وأخيرا تفسيرها المختلف لـ «اتفاق الطائف» الذي تم توقيعه في العام 1990.
صيغة لبنان الراهنة تأسست على المساومة التي انعقدت في أربعينات القرن الماضي بين التيارين المسيحي والمسلم، وتحديدا نخبهما، وانتهت إلى التأكيد على فقرة توفيقية تقول إن «لبنان ذو وجه عربي». وخرجت من التسوية النخب التي تؤكد على صيغته الصافية أو التي تتمسك بصيغه الماضية: السورية أو العربية أو الإسلامية.
انقسام اللبنانيين على هوية وطنهم ليست مسألة مفتعلة بل هو أساسا يضرب جذوره في تاريخ المنطقة التي كانت حتى قبيل نهاية الحرب العالمية الأولى دائرة من دوائر السلطنة العثمانية. ولبنان بحدوده الراهنة كان حتى لحظة انهيار السلطنة غير موجود في الجغرافيا. فالحدود الحالية رسمت في عشرينات القرن الماضي في وقت واحد مع حدود العراق وسورية والأردن وفلسطين في اتفاقية بريطانية - فرنسية عرفت بمعاهدة سايكس - بيكو. ولبنان الحالي لم يوجد كما هو الآن دفعة واحدة بل تم رسم خريطته السياسية بتدرج زمني بدأت نواتها في القرن التاسع عشر.
في ذاك القرن تأسست «المسألة اللبنانية» على قاعدة شبكة من العلاقات الدولية والإقليمية وصراع القوى الأوروبية مع السلطنة، فانعكس الأمر على التركيبات الطائفية المحلية واختلف استقبال الطوائف الجبلية والساحلية لذاك الصراع. وأدى اختلاف النظرة إلى اختلاف العلاقات الداخلية بين الطوائف وانفجار الحروب الأهلية بينها.
تأسيس صراع الطوائف في المنطقة لم يبدأ في القرن التاسع عشر بل تأسس في القرن السادس عشر وتحديدا في أربعينات ذاك القرن عندما حاول السلطان سليمان القانوني تحييد فرنسا من الصراع الدولي لتخفيف الضغط على جبهته في أوروبا الشرقية. فعقد في العام 1536 مع ملك فرنسا فرانسوا الأول معاهدة نصت على «الامتيازات الأجنبية» منحه بموجبها الكثير من الامتيازات التجارية واعترف له بسلطة خاصة على المجموعات المسيحية في بلاد الشام. وشكل البند المذكور أول انتقاص من شرعية السلطنة القانونية وحقها في ممارسة نفوذها على كل رعاياها. وردت بريطانيا بعقد معاهدة مع الشاه الصفوي في إيران.
لم تبرز سلبيات الاتفاق العثماني - الفرنسي مباشرة وكان لابد من حصول دورات تاريخية عدة لتظهر نتائجه السياسية على الأرض. ومع تراجع السلطنة العام وضعفها العسكري على جبهات القتال أخذ التفكك يطال الأطراف وبدأ الانقسام يتسلل من المسام ونقاط الضعف. وبقدر ما كانت الضغوط العسكرية تتضاعف كانت السلطنة تستجيب لدعوات التحديث والانفتاح. وبقدر ما كان التحديث يتزايد في المركز كانت السلطنة تخسر مواقعها في الأطراف للقوى الأوروبية.
جرت المحاولة الإصلاحية الأولى في عهد عثمان الثاني (1618 - 1622) وانتهت بمقتله. والثانية في عهد مراد الرابع (1625 - 1640) ونجحت جزئيّا. والثالثة في عهد محمد الرابع (1635) ومعه تم اكتشاف مدى التقدم الأوروبي على العالم الإسلامي.
في مطلع القرن الثامن عشر شقت إصلاحات أحمد الثالث (1703 - 1730) طريقها فانتهى الأمر بثورة الانكشارية وبداية تراجع دور العلماء في تقرير سياسة السلطنة. وفتحت هزائم السلطنة أمام روسيا في جبهة القتال الطريق لتطوير حركة الإصلاح في عهد محمود الأول وتجددت مع تجدد الحرب مع روسيا (1774) في عهد عبدالحميد الأول.
في فترة الحرب مع روسيا اتجهت السلطنة نحو أوروبا طلبا للدعم والمساعدة فاستغل بعض الوكلاء المحليين ضعف رقابة اسطنبول فأخذ يرتب علاقاته مع قناصل الدول الأوروبية ويعقد تحالفات سياسية وعسكرية معهم. فبرز ظاهر العمر في عكا في مطلع القرن الثامن عشر ونجح في ترتيب اتفاق مع الفرنسيين ثم عقد الاتفاق نفسه مع علي بيك والي مصر. وسعى علي بيك الكبير إلى عقد تحالف مع روسيا وتنظيم علاقات خاصة مع ظاهر العمر بهدف الانفصال عن السلطنة، وفشل.
جاءت حملة نابليون بونابرت على مصر سنة 1798 وفشلها على أبواب عكا، إلا أنها شجعت بريطانيا على التدخل فاحتلت مصر في وقت كان السلطان سليم الثالث (1789 - 1807) يحاول دفع حركة الإصلاح في اسطنبول إلى الأمام.
قبل حملة بونابرت كانت محاولات الإصلاح في السلطنة قد بدأت منذ أكثر من قرن عرفت خلالها الكثير من علاقات التجاذب بين المركز العثماني والأطراف وبين الأطراف والدول الأوروبية.
في تلك الفترة كانت «الامتيازات الأجنبية» أو ما يعرف بنظام الحماية، قد بدأت تظهر أثارها المحلية التجارية والسياسية والثقافية. وبرز دور بعثات التبشير في بلاد الشام كقوة مستقلة تستمد الدعم من القناصل وأنظمة الحماية.
مدارس وتبشير
بداية أسّسَ اليسوعيون مدرسة عينطورة في كسروان سنة 1734 ثم تخلوا عنها لاحقا للرهبان العازاريين. ومنذ ذاك الوقت ظلت حركات التبشير تصعد وتهبط إلى أن انطلقت في العام 1809 «الجمعية اللندنية» وهي جمعية تبشيرية كان هدفها نشر النصرانية بين اليهود وتجميعهم في فلسطين.
وجدت السلطنة نفسها في وضع لاتحسد عليه. فهي إما أن تمنع نشاط حركات التبشير وتخسر دعم أوروبا لصد الهجمات العسكرية الروسية في أوروبا الشرقية أو أن تسمح بنشاطها وتقبل بضعف رقابتها على رعاياها. وقبلت السلطنة الخيار الثاني على رغم مرارته.
آنذاك انتهى عهد سليم الثالث بثورة مضادة أطاحت به في 1807 واعتلى محمود الثاني كرسي السلطنة في 1808. حاول محمود الثاني الاستفادة من أسلافه فشارك العلماء في عملية الإصلاح ونال دعمهم ضد جيش الانكشارية وقضى عليه في انقلاب قاده في 1826.
أصيبت إصلاحات السلطان محمود بخيبة أمل بعد هزيمته في الحرب ضد روسيا في العام 1829 فزاد تعاونه مع أوروبا لوقف الضغط العسكري وإعادة تنظيم هيكلية الدولة. فعقد معاهدة 1838 ووافق على فتح أسواق السلطنة الداخلية أمام التجارة الأوروبية وشجع على قيام حركة إصلاحية دستورية (منشور كلخانة) في العام 1839 دعت إلى تبني النموذج الأوروبي في التنظيم والإدارة.
في هذا الوقت كانت حركات التبشير تواصل نشاطها فدخلت البعثات البروتستانتية الأميركية على خط التنافس في 1820، بعد مئة عام على بداية نشاط الإرساليات الفرنسية والبريطانية، وأسست أول مدرسة للبنات في بيروت 1830. ورد البابا غريغوريوس السادس عشر على النشاط البروتستانتي بزيارة إلى بلاد الشام في 1831 وشجع على فتح المدارس التعليمية - الدينية التي انتشرت منذ العام 1834 واقتصر برنامجها التدريسي على تعليم الكتاب المقدس.
ترافقت هذه المرحلة مع بروز ظاهرة محمد علي في مصر التي مرت بدورها بتناقضات كثيرة في علاقاتها مع أوروبا والسلطنة. مرة يقف والي مصر مع أوروبا ضد السلطنة ومرة مع السلطنة ضد أوروبا إلى أن أرسل ابنه إبراهيم باشا في حملة إلى بلاد الشام وهناك تغير الموقف. فدعمته الدول الأوروبية بداية للضغط على السلطنة ثم دعمت السلطنة لإخراجه من المنطقة.
في مرحلة إبراهيم باشا تأسس الانقسام السياسي في جبل لبنان فانحاز الموارنة إلى مصر ضد السلطنة ووقف الدروز إلى جانب السلطنة ضد محمد علي. واستغلت بعثات التبشير الانقسام فتحركت بحرية أكبر بعيدا عن رقابة السلطان.
استمر التوازن القلق إلى أن نجح التحالف العثماني - الأوروبي في إخراج قوات إبراهيم باشا من بلاد الشام في 1840 وتأسيس الانقسام الأهلي - الطائفي في جبل لبنان. وانتهى الصراع الدرزي - الماروني بعقد صفقة عثمانية - أوروبية قضت بإنشاء نظام القائمقاميتين في 1842 قسم الجبل إلى منطقة شمالية مسيحية تابعة لولاية طرابلس ومنطقة جنوبية درزية تابعة لولاية صيدا يفصلها طريق الشام بين بيروت ودمشق.
لبنان الصغير
منذ تلك الفترة تبلورت شخصية «لبنان الصغير» على أساس انقسام أهلي بين الطائفتين الكبيرتين في الجبل. وعرف الجبل ومحيطه الجغرافي سلسلة تطورات يمكن اختصارها بالآتي:
أولا، تعزيز خط الإصلاح الإداري في الباب العالي واستمرار عهد التنظيمات من العام 1839 إلى العام 1856. وهو أمر ساهم في إضعاف قبضة اسطنبول ونمو حركات الانفصال والاستقلال عن السلطنة.
ثانيا، منذ الثلث الأول من القرن التاسع عشر برزت حركات تمرد ضد السلطان بقيادة أسر وعائلات وأمراء مثل آل الجبار في السلمية بين الرقة وحلب، وآل حرفوش في بعلبك، وآل شهاب في جبل لبنان، وآل حماده في طرابلس، والأمير الحارثي بن طرباس في جبل عجلون، وأبن فروخ في نابلس، والأمير أحمد بن رضوان في غزة.
ثالثا، انتشار ظاهرة التبشير في المشرق العربي فبلغ عدد جمعياتها 27 من مختلف الجنسيات الأوروبية. وتمتعت بالإعفاء من الضرائب وخصوصا المستوردات من الخارج «إذا كانت تستخدم لحاجات دينية».
رابعا، نمو ظاهرة الطائفة - الطبقة فأخذت الطوائف إلى جانب دورها السياسي - التنظيمي، تلعب دورا اجتماعيا - اقتصاديا. إذ منذ اتفاق سليمان القانوني مع ملك فرنسا أخذت السلطنة تستبعد رويدا الجماعات غير المسلمة عن الأجهزة العليا للدولة. وبدأت تلك الجماعات (يونانيون، أرمن، مسيحيون مشارقة) تبحث عن مجالات أخرى للعيش والرزق في وقت أخذت التجارة الداخلية للسلطنة تتعرض إلى ضربات أليمة بسبب الحروب في شرق أوروبا وفي مواجهة روسيا أو ضد حركات التمرد والعصيان في أطراف عدة من الدولة. شكل هذا المناخ السياسي - القانوني الإطار التاريخي لنمو تكتلات اقتصادية وفئات تجارية تألفت حصرا من الجماعات المسيحية من رعايا السلطنة (الأرمن، اليونانيون، الأقباط، الحلبيون المسيحيون، والمسيحيون في جبل لبنان وساحله). وعزز التمييز المذكور في الدور الاقتصادي التمايز الاجتماعي - الطائفي بين رعايا السلطنة ما انعكس لاحقا في انقسامات عصبية - سياسية يختلط فيها الحديث الأوروبي بالقديم العثماني
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2289 - الخميس 11 ديسمبر 2008م الموافق 12 ذي الحجة 1429هـ