ماذا تستطيع أن تقدم وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس للجانب الفلسطيني في جولتها التي تقتصر على زيارة القاهرة وتل أبيب ورام الله؟ الوزيرة قالت إنها قررت حض الأطراف المعنية على التحرك باتجاه تفعيل التفاهمات التي توصلت إليها واشنطن خلال إدارتها لمؤتمر أنابوليس بشأن السلام في «الشرق الأوسط». وأردفت الوزيرة قولها بكلام غامض عن ضرورة التوصل إلى صيغة حل مؤقت قبل نهاية السنة الجارية. ورأت أن التأخر في مشروع الحل المبدئي يسرع من خطوات العنف ويرفع درجات السخونة ويعطي ذريعة للقوى المضادة للعمل على إحباط التسوية.
كل هذا قالته الوزيرة الأميركية لتبرير جولتها التي تصادفت مع ثلاثة تطورات. الأول إعلان تل أبيب وقف هجماتها على قطاع غزة مؤقتا بانتظار ما ستسفر عنه جولة رايس والاتصالات الجارية بشأن الصواريخ المصنوعة محليا. الثاني الإعلان عن انتهاء زيارة الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد إلى بغداد بعد توقيعه تسعة اتفاقات مع حكومة نوري المالكي الأميركية. الثالث الإعلان عن صدور قرار ثالث عن مجلس الأمن قضى بفرض عقوبات إضافية على طهران تتضمن حق تفتيش السفن المتوجهة من وإلى إيران.
التطورات الثلاثة متعارضة في منطقها السياسي ولكنها تساهم في ترسيم صورة ميدانية متطابقة مع نظرية «الفوضى البناءة» التي عمد تيار المحافظين الجدد على تفعيلها في منطقة «الشرق الأوسط» خلال السنوات السبع الماضية. فالفوضى في التحالفات وتعارض القرارات والاضطراب في المسارات تعكس في مجموعها العام تلك «الفوضى البناءة» التي نشرتها الإدارة الأميركية في العراق ومحيطه. وهذه الفوضى السياسية يمكن رصدها من خلال متابعة الملفات الثلاثة (غزة، العراق، وإيران) التي ظهرت بقوة في الأسبوع الماضي.
ملف غزة الذي أشعلته حكومة إيهود أولمرت قبل زيارة رايس وأوقفته مؤقتا بعد قدومها إلى المنطقة كشف عن أوراق متعارضة في توجهاتها وخصوصا تلك التصريحات والمؤتمرات والبيانات التي صدرت عن «حماس». فهذه الحركة التي تعتبر نفسها في موقع «الممانعة» طالبت الدول التي تصنفها في المعسكر المضاد التدخل سياسيا وإنسانيا ودبلوماسيا وربما عسكريا واقتصاديا للتدخل والمساعدة وحماية أهالي القطاع من المحرقة بينما سكتت أو لم تطالب أو تضغط على «جبهة الممانعة» للدعم والتحرك لإنقاذ غزة من العدوان. هذا التعارض اللغوي بين المقدمات والنتائج يكشف بوضوح عن تلك الفوضى الفكرية التي تمر بها الحركة في تعاملها السياسي مع الجغرافيا والمحيط وموازين القوى.
العراق وإيران
ملف العراق كشف بدوره عن تعارضات بين المبدأ والمصلحة حين قام الرئيس الإيراني بزيارة بلد عربي تحتله الولايات المتحدة وتشرف على خرابه ودماره وتمزيق هويته وتقويض دولته ونثر أهله على تجمعات طائفية ومذهبية. فهذه الزيارة مهما حاول الرئيس الإيراني تجميلها وتزيينها وتلوينها بالأصباغ تعطي إشارة سلبية للأطياف العراقية وتدفعها إلى مزيد من الاستقطابات الأهلية وتعزز نظرية «المؤامرة» ودور طهران في استخدام الاحتلال الأميركي لترجيح نفوذها في بلاد الرافدين. هذا الأمر أيضا يعطي فكرة عن ذاك التعارض اللغوي بين المقدمات والنتائج ويساهم في تأويل قراءات تستنتج مجموعة اجتهادات تشكك في نزاهة السياسة الإيرانية.
ملف إيران النووي والعقوبات الإضافية كشف بدوره عن اختلالات كبرى بين المبادئ والمصالح. الولايات المتحدة مثلا تتعاون مع إيران لضبط الوضع الأمني في العراق واحتواء تداعياته الأهلية ولكنها تضغط دوليا على طهران لوقف برنامجها النووي تحت سقف تطوير العقوبات الاقتصادية والمالية ضدها. وروسيا الاتحادية التي تدعم طهران في موقفها العام من جهة حقها في توليد الطاقة السلمية لا تتردد في خطوات خاصة وتأييد القرارات الدولية التي تتعرض لذاك الملف النووي. وهذه المواقف المتضاربة تكشف بدورها عن مجموعة تعارضات بين الالتزام المبدئي والسياسة العملية.
أميركا ضد إيران ومعها. وإيران ضد أميركا ومعها. وروسيا ضد إيران ومعها. وإيران ضد الاحتلال الأميركي للعراق ومعه. وطهران تتحالف مع حكومة المالكي الأميركية وتهاجم سياسة واشنطن في المنطقة. وحماس ضد الدول العربية ومعها. وقوى الممانعة ضد العدوان الإسرائيلي وتطالب الدول العربية بالصمود والتصدي للعدوانية الصهيونية. وهكذا إلى آخر صور وأجزاء «الفوضى البناءة». والفوضى كما يبدو أخذت الآن الانتقال بعد خمس سنوات من الاحتلال الأميركي للعراق من إطار تقويض العمران إلى تقويض «عقول» البشر تمهيدا للتلاعب بالتحالفات انطلاقا من تفكيك القراءات وعزل المقدمات النظرية عن النتائج الميدانية.
في ظل هذا الاضطراب الذهني والفكري وعدم الاستقرار السياسي في مختلف الساحات الميدانية ماذا تستطيع أن تقدم وزيرة الخارجية للجانب الفلسطيني في زيارتها على العواصم الثلاث؟ الطبق نفسه. فالطبخة الأميركية جاهزة وتمارسها مختلف الأطراف وهي «الفوضى البناءة» أو عدم الاستقرار الذهني والسياسي.
الوزيرة تعلن دعمها لحكومة محمود عباس ولكنها لا تتردد في إثارة الفوضى في دائرة حساسة تعطل عليه اتصالاته. والوزيرة تؤكد عزم أميركا على إعطاء دولة للفلسطينيين قبل نهاية السنة ولكنها تعلن التزامها بالسياسة الإسرائيلية التي ترفض فكرة الدولة وتعمل على تقويضها من خلال توسيع المستوطنات والوحدات السكنية في الضفة الغربية.
هذا التعارض اللغوي بين المبدأ والسياسة العملية يضعف عباس ويطوقه ويعطله ويعطي ذريعة قوية لمصلحة «حماس» وخطابها الايديولوجي المبهم في تعامله الميداني. ورايس التي غادرت المنطقة في جولتها السابقة على أمل أن تعود وتكون المفاوضات دخلت في طور متقدم تبذل جهدها في جولتها الحالية لإعادة المفاوضات إلى النقطة التي توقفت عندها. ومثل هذه «الفوضى» العقلية والذهنية ليست «بناءة» في منطقها السياسي وسلوكها العام ولكنها هدامة من حيث قدرتها على تأسيس «عصاب» من انقسامات أهلية تعصف نفسيا وثقافيا ومرضيا بين قوى يفترض نظريا أن تكون موحدة ومجتمعة في جانب واحد.
رايس ستغادر المنطقة غدا ويرجح أن تذهب من دون أن تنجح في تقدم عجلة التفاوض قيد أنملة. فالوضع العربي أسوأ مما كان عليه قبل مؤتمر أنابوليس. وإمكانات الولايات المتحدة على الفعل والتأثير والتعديل تتراجع. و «الفوضى الهدامة» بدأت تتحول إلى فوضى فكرية وذهنية وعقلية تشبه في خرابها السياسي ذاك الخراب الذي ألحقته قوات الاحتلال الأميركي بالعمران في بلاد الرافدين. وهذه الحالة المزرية في تداعياتها العامة والمشتركة هي الموضوع الوحيد الذي تستطيع رايس تقديمه للجانب الفلسطيني: الفوضى الهدامة.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2007 - الثلثاء 04 مارس 2008م الموافق 25 صفر 1429هـ