سوء التخطيط الذي عانت منه البحرين سنوات طويلة ولربما عقود أدى إلى وضع بدأ يفرز واقعا جديدا أكثر تعقيدا من ذي قبل على مستوى تعدد مواقع القرار فيما يتعلق بتشخيص العلاج الناجع لمحاصرة تداعيات التقصير السابق، ونشاهد اليوم إصدار إشارات متعاكسة ومتناقضة من جهات رسمية مختلفة ليس في الشأن السياسي والاقتصادي فحسب بل في كل الشئون المتصلة بالقضايا المهمة لحياة المواطن البحريني.
بات من الصعب على أحد أن يبحث عن خطاب موحّد للدولة، أو نسق واحد تسير عليه شئون البلاد والعباد، ومن الأصعب البناء للمستقبل على أية مؤشرات، والوضع السابق خلق حكومة متضخمة وحكومة ذات أجهزة مترهلة وقد قضت على مناسمها البيروقراطية والفساد المالي والإداري، على رغم أنها الحكومة التي خبرت بواطن الأمور عقودا طويلة من الزمن، وتحديدا منذ المرحلة التي أعقبت الاستقلال.
الحكومة حاولت أن تجاري الزمن وتقلل من آثار الحقبة السابقة من خلال اللجوء نحو خيار الخصخصة، غير أن الظروف التي تمت في إطارها هذه العملية كتبت على نفسها الفشل، لأن كثيرا منها لم تعتمد على سياسات ذات رؤية واضحة، ورست الكثير من عقود الخصخصة على جهات متنفذة، وتشوب هذه العقود ثغرات جوهرية، أنتجت مثالا أزمات مختلفة تنعكس على الواقع الاجتماعي للناس.
وليس هناك من ينفي الكثير من الشبهات والتساؤلات في الإجراءات التي تمت في إطارها عملية عقود الخصخصة لم تصاحبها شفافية حقيقية، ويسود على نطاق واسع أن هذه العقود أبرمها المسئولون الحكوميون مع شركاتهم الخاصة وإن حملت مسميات شتى!
وفي الضفة الأخرى، يحاول بعض المسئولين الشباب تجاوز الواقع السابق، من خلال إنشاء مؤسسات جديدة رسمت هياكلها جهات استشارية دولية (لا تعرف بالضرورة الخصوصية البحرينية)، وهذه الدراسات كلفت الملايين من المال العام، وأجريت لقاءات متقطعة بين حين وآخر مع النخب البحرينية.
والوضع الحالي بصراحة ليس أحسن حالا من السابق، ، إذ إن البحرين دخلت في مسلسل جديد من الهيئات والشركات التي لا تخضع الكثير منها تحت رقابة مجلس النواب المنتخب من الشعب، كما أن مراسيم وقرارات تشكيل وتعديل هذه الهياكل والمؤسسات الجديدة لم تخضع لموافقة السلطة التشريعية.
وخير دليل المخطط الهيكلي الاستراتيجي للمملكة الذي أعدته الشركة الاستشارية الأميركية (سكيدمور) نوقش بعيدا عن الرأي العام، وعلى رغم الأهمية الاستراتيجية لهذا المخطط الذي سيغير وجه البحرين خلال الأعوام الثلاثين المقبلة فإن هذا المخطط مازال بعيدا عن أعين النواب، ولم تنجح مطالباتهم ومناشداتهم وتوسلاتهم في التمتع برؤيته، وهذا يعني أن مجلس النواب ليس لديه ما يراقبه طالما أن كل شيء غير قابل للمراقبة.
الثناء وحده يليق بالخطوات الجسورة والشجاعة وغير المسبوقة في الرغبة الرسمية بتحرير البحرين من الشللية في المعاملات الحكومية وخصوصا في قطاع الخدمات، وجلب المزيد من الاستثمارات ورؤوس الأموال، ومنح مزيد من الشفافية في الإجراءات المتبعة ضمن النسق الحكومي.
ولكن يجب أن ننتبه إلى أن المواطن والمستثمر عادا ليواجهان المشكلة السابقة، وكأن حليمة عادت لعادتها القديمة، فالبيروقراطية اتخذت وجها جديدا، وهناك أكثر من محطة حتى تنجز معاملته، وهناك طابور جديد من الإجراءات التي تحتاج إلى مزيد من المراجعة، ويجب أن يحدد نطاق المسئولية السياسية عن كل جهاز إداري بوضوح.
لا أشك ذرة في أن حرص القائمين على مجلس التنمية على أن تسير عجلة التنمية في منحى جديد يحمل طابعا من الآمال والأمنيات لبحرين المستقبل، ولكن نحتاج إلى أن نؤسس الخطوات المستقبلية على قواعد ثابتة ومتوافق عليها، وغنيّ عن البيان أن سلطة ممثلي الشعب يجب أن تمتد للرقابة على أية مؤسسة، لأنه من دون ذلك لن يعد للنواب ما يفعلونه!
إقرأ أيضا لـ "حيدر محمد"العدد 2005 - الأحد 02 مارس 2008م الموافق 23 صفر 1429هـ