كما الفقر والغنى، وكما النفوذ والسلطة، وكما الوجاهة والزعامة قد تتغير بمعادلات الحياة وسننها التي لا تستثني شيئا، كذلك كل ما يصنع القوة من عناصر فهو جزء من مكاسب الإنسان أو المجتمع أو الجماعة، وهو كما غيره قابل للتغير والتبدل لما تقتضيه سنن الحياة.
حال المجتمعات ينبئ بأن المعادلة قد تكون يوما ما بيد جهة أو شخص أو جماعة، لكنها في يوم آخر قد تنتقل إلى بديل يتبوأ مكان تلك الوجودات، فتتغير مراكز الثقل ومواقع القوة، ولا يبقى منها إلا التاريخ وبعض الرمزية والاعتبارية التي لا تؤثر في مجريات الأمور، وهذا مصداق لقول الله سبحانه وتعالى «وتلك الأيام نداولها بين الناس» (آل عمران: 140)، والأمر ذاته يصدق في الأسرة والعائلة، فكلما مر الزمن كبر جيل وتعب، وشب جيل جديد ليمارس الحياة بفاعلية تفوق من سبقه.
السؤال: كيف سيتعامل المجتمع (وفي مقدمه من كان يشعر بالتهميش والإقصاء) مع مراكز ثقله القديمة؟ وكيف سيتعاطى مع جباله وقممه السابقة؟
غالب الظن أنه سيتعامل معها بالثقافة التي صنعتها حال القوة، كيف ربت أجيالها كيف مارست قوتها؟ كيف تعاملت مع الأغيار أو الأنداد في مجتمعها؟ وأخيرا، أي القيم يوجه السابق ليتربى عليها اللاحق في مجتمعها؟ هل هي قيم القوة والهيمنة أم قيم الأخلاق والاحترام؟ وهل ستكون الصورة مصداقا لقول الشاعر: أعلمه الرماية كل يوم فلما اشتد ساعده رماني؟
لست غافلا هنا أن قدرا كبيرا من أساليب وطرق التعامل تؤثر فيها تعاليم الدين وقيمه، وعادات المجتمع وسلوكياته، بيد أن القوي مدعو إلى أن يتأمل حركة الأيام وسنن الكون، ليعلم أن الحياة لا تستمر على حال راكد، ولا تسير نحو الثبات والتوقف في كل شأن.
إن إطالة النظر والتفكير الجاد في سنن الحياة يدفع لصناعة ثقافة تخرج صاحبها من اللحظة الراهنة، ونشوة الاقتدار والقوة إلى المستقبل الذي قد يمسه وسيتلاقى بلا ريب مع نسله وذريته، وعليه وهو في موقع القوة أن يغرس ثقافة قيمية ومبدئية لا تتأثر بظرفه الحالي، بل هي أبعد من ذلك بكثير، ثقافة ملؤها الحب والاحترام، وأن يمارسها في تفاصيل حياته وقدراته ومراكزه ووجاهته كي تتكرس حماية للآخرين منه وحماية لنفسه من حركة الأيام وتبدل الأحوال.
في السياق الاجتماعي والتربوي (مثلا) لا يصح أن يعتمد الأب على تعاليم الدين فقط في صياغة شخصية ابنه وتعامله معه حين يكبر، فيقول: إن القرآن الكريم يأمره بالتعامل الحسن مع الوالدين إذا كبرا في قوله سبحانه وتعالى «إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما» (الإسراء: 23)، بل لابد أن يؤيد ذلك بالتعامل الرحيم مع الولد، وتلمسه لأخلاق والديه الإنسانية من خلال علاقته بعياله وبالناس من حوله... ذلك هو ما يعزز سلامة الذوق وحسن التعامل مع الوالدين إذا كبرا.
لقد كتبت صحيفة «عكاظ» السعودية 13/2/2008 تحت عنوان «أمهما أنهت حياتها قهرا ووالدهما أذاقهما شتى صنوف العذاب» قصة مؤلمة جدا تتحدث عن امرأة لم تجد مفرا من عذاب الزوج إلا النار التي أشعلتها في جسدها لتلقى حتفها وتستريح من عذاب الزوج، لينتقل العذاب بعد ذلك لابنتيه وليستقر بهما الحال في دار الرعاية الاجتماعية.
ترى كيف ستتعامل هاتان البنتان مع والدهما لو قدرت لهما القدرة والقوة ووصل والدهما إلى حال الكبر والضعف؟
من حظ والدهما أن تتعاملا معه بروح التدين والإسلام والإنسانية، وهما كذلك إن شاء الله، بيد أن تعامل الآباء بهذا النحو من التعسف والعنف قد يقود لإهماله حال الكبر والضعف وأحيانا للانتقام والتشفي والقتل.
وإذا كانت قصص كثيرة قد عكست ردات الفعل العنيفة والناقمة بين آباء وأبناء وأزواج وزوجات وإخوة من أب وأم بسبب المتخلف من سابق التعامل القاسي، فإن الصورة يمكن أن تكون أشد قسوة وإيلاما في تعامل غير الأقارب مع بعضهم.
إن تحريك ثقافة الاحترام والإنسانية بين الناس في مرحلة الغنى والاستغناء والقوة والاقتدار هي من عقل الإنسان وحكمته ونظره الثاقب للمستقبل، لأنه الحماية اللازمة لأمنه وأمن من معه في مختلف أحواله وأوضاعه، غنيا وفقيرا، قويا وضعيفا، قريبا ونائيا، وهي أمن وأمان لمجتمع يراد له أن يبقى قويا متماسكا عصيا على الانكسار والهتك والهزيمة مهما تغيرت الظروف والأحوال.
إقرأ أيضا لـ "الشيخ محمد الصفار"العدد 2005 - الأحد 02 مارس 2008م الموافق 23 صفر 1429هـ