العدد 2005 - الأحد 02 مارس 2008م الموافق 23 صفر 1429هـ

محرقة غزة... واختلاف الأولويات

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

المحرقة التي تنفذها حكومة إيهود أولمرت في قطاع غزة ضد السكان المدنيين بذريعة الدفاع عن النفس ووقف إطلاق الصواريخ جاءت بعد حصار طويل استهدف تجويع الناس وتعطيل حياتهم اليومية. فالحصار الذي استمر على رغم الاحتجاجات الدولية والإسلامية والعربية مهد الطريق للبدء في عمليات جوية واختراقات برية للقشرة (الحدود والمعابر) بقصد إنزال أكبر كمية من الضحايا من دون حاجة لإعادة الاحتلال.

حكومة تل أبيب لا تخطط كما يبدو لحرب برية واسعة وإنما تتجه نحو تأمين شريط على قشرة الحدود لعزل القطاع عن عمقه العربي (المصري) ومنع التواصل أوالإمدادات التي يمكن أن تساعد على تطوير القدرات الذاتية وتعزيز الممانعة. وبغض النظر عن الأهداف البعيدة للمحرقة فإن ما يحصل لا يمكن عزله عن الطبيعة العنصرية التفوقية للكيان الإسرائيلي وهي طبيعة أعاد تقرير القاضي فينوغراد التذكير بها والتأكيد عليها حين أشار إلى أن «خيار القوة» هو الكفيل بضمان بقاء «إسرائيل» واستمرارها في محيط معادٍ لها.

اعتماد «خيار القوة» الذي انتهى إليه تقرير فينوغراد بشأن إخفاقات العدوان الأميركي - الإسرائيلي على لبنان في صيف 2006 يشكل نقطة انطلاق للعدوان والحصار المستمر لقطاع غزة. ومثل هذه النقطة لا يمكن عزلها عن تكوين الدولة الإسرائيلية التي ترى في التسوية مع دول الجوار خطوة سياسية في سياق تراجع استراتيجي. وهذا النوع من التفكير الصهيوني يلقى في المرحلة الراهنة ذاك الغطاء الأميركي المتمثل في وجود إدارة آيديولوجية تتحكم بمصادر القرار السياسي في واشنطن.

المحرقة التي ترتكبها تل أبيب الآن ضد القطاع تشبه ذاك العدوان الذي ارتكب على لبنان. فالمحرقة تنفذها حكومة أولمرت ولكنها تلقى الدعم الأميركي والغطاء السياسي من إدارة جورج بوش. وهذه الصلة يمكن التدليل عليها من خلال المراجعات التي قام بها مجلس الأمن الدولي بشأن الحصار سابقا والمحرقة حاليا. فالموقف الأميركي شكل تغطية دولية لسياسة الحصار ومشروع الحرق. ولهذه الأسباب فشل مجلس الأمن في التوصل إلى إصدار صيغة بيان دولي واضح في إدانة تل أبيب وتحميلها مسئولية العدوان.

الموقف الأميركي لا يستهدف فقط تغطية الحصار والمحرقة وإنما يريد أيضا اختبار ردود الفعل العربية والإسلامية والدولية والفلسطينية ودراسة مدى تعاطفها مع أهل القطاع أو تجاوبها مع تلك النداءات التي تطلقها القوى الفاعلة بشأن ضرورة التحرك لفك الحصار وتعطيل المحرقة. وسياسة رصد الانفعالات وفحص مدى جديتها ومراقبة إمكانات ترجمتها ميدانيا على الأرض كلها عناصر ملموسة تريد واشنطن اختبارها ووزنها حتى تأخذها في حسابات القوة والضعف.

بناء على هذه المعطيات يمكن رصد الكثير من القراءات العامة إلا أن المهم فيها تلك التحركات العملية التي تعطي فكرة عن القدرات الفعلية على المساعدة والدعم. الطرف الفلسطيني مثلا لا يستطيع النجدة إلا بحدود نسبية ولكنه استطاع الاحتجاج في مجلس الأمن والإعلان عن وقف التفاوض مع تل أبيب أو رفض التعاطي معها في ظل الحصار والمحرقة... وهذا ما حصل حتى الآن.

الأطراف العربية بدورها وجدت نفسها في موقع غير قادر على الدعم والمساعدة إلا في إطار نسبي يؤكد على ضرورة وقف العدوان (الحصار والمحرقة) والعودة إلى التفاوض والحوار تحت سقف الشرعية الدولية التي اعتمدتها المبادرة العربية أساسا للتسوية.

الأطراف الإسلامية أيضا غير قادرة على التحرك بسبب وجود أولويات مختلفة عن المشروع العربي. المشروع العربي الذي أعيد إنتاجه في قمة الرياض يركز الآن أولوياته على ثلاث نقاط: تسوية القضية الفلسطينية على أساس القرارات الدولية (242 و338 و1701)، وتسوية الخلاف الفلسطيني على أساس «تفاهم مكة» بين فتح وحماس، وتسوية الخلاف اللبناني على أساس المبادرة العربية التي تحث على انتخاب رئيس للجمهورية. في المقابل تبدو المشروعات الإسلامية متفاوتة الاهتمامات. فالأولوية في باكستان تختلف عن الأولوية في تركيا. والأولوية في إيران تتركز الآن على حماية البرنامج النووي وترتيب علاقات مع حكومة نوري المالكي تضمن اقتسام النفوذ مع الولايات المتحدة على ساحة العراق. حتى سورية فإنها تعطي الآن الأولوية للملف اللبناني وانتخابات الرئاسة وإعادة ترتيب نفوذها في بلاد الأرز.

أولويات واختلافات

اختلاف الأولويات الدولية والإسلامية والعربية والفلسطينية يضعف إمكانات التواصل الميداني مع قطاع غزة ويؤخر كثيرا طاقات الدعم لمنع تل أبيب من الاستمرار في الحصار وسياسة الحرق. والاختلاف المذكور في الأولويات يشكل ذاك الميدان الحيوي الذي تحتاجه الولايات المتحدة لاختبار مدى جدية الأطراف المعنية بالصراع العربي - الإسرائيلي وخصوصا من جهة القوى التي تصنِّف نفسها في معسكر الممانعة. فهذه القوى كما يبدو غير جاهزة وربما تكون غير مستعدة لترجمة تصريحاتها النارية سياسيا أو وضع صواريخها «البخارية» في الخدمة العسكرية.

مشكلة اختلاف الأولويات تعتبر واحدة من أهم نقاط ضعف قطاع غزة. فهذا القطاع المحاصر اضطر لفتح قنوات اتصال مع مجاله الجغرافي لتخفيف ثقل المجاعة. كذلك اضطر القطاع إلى طلب تدخل الدول العربية لدى المراجع الدولية لرفع الحصار ووقف المحرقة... وهذا يعني في السياسة العملية العودة إلى «مربع صفر» والبدء من جديد في التعامل الواقعي مع القوى الدولية (مظلة الأمم المتحدة) أو العربية (مظلة جامعة الدول العربية) أو الفلسطينية (مظلة منظمة التحرير).

إعادة قراءة الأولويات تساعد كثيرا على وضع برنامج سياسي يموضع النقاط المطلوب التوصل إليها ميدانيا ويقلل من تلك الرهانات الإقليمية التي تبدو أطرافها الآن في مكان آخر وبعيدة سياسيا وغير مستعدة للتضحية أو التجاوب مع حاجات القطاع.

المكان الوحيد القادر على المساعدة وتلبية النداء كان لبنان. ولبنان الآن كما يبدو من المشهد السياسي مطوق أهليا وإقليميا ودوليا ولم يعد يملك تلك الممرات التي تسمح له بالتدخل لتخفيف الضغط عن قطاع غزة كما حصل في صيف 2006. وإرسال إدارة واشنطن المدمرة «كول» إلى قبالة الساحل اللبناني في مجال «خارج الرؤية» كان إشارة تنبيه لحزب الله ووسيلة ضغط لمنعه من التحرك ميدانيا. وهذه النقطة التي بدأت معالمها في الاتضاح تعتبر إضافة نوعية تعيد رسم أشكال الصورة المشوشة في الآفق. فالصورة تتقاطع في أكثر من مكان ولكنها لم تعد غامضة كما كان الحال في العام 2006. آنذاك اختبرت واشنطن مدى فعالية الصواريخ ودرست ميدانيا مدى جاهزية محور دمشق - طهران للتدخل واكتشفت عمليا وبعد 34 يوما من العدوان أن هناك فجوة بين الكلام والفعل. الأمر نفسه يتكرر الآن ميدانيا في قطاع غزة وأميركا جددت اختبارها الميداني لمدى صحة الكلام على الأرض واكتشفت عمليا أن هناك أولويات أخرى لهذا المحور بعيدة كثيرا عن ساحة فلسطين.

المحرقة التي تنفذها تل أبيب ضد أهل القطاع تستهدف الشعب الفلسطيني وقضيته. وهذه أولوية إسرائيلية ثابتة بغض النظر عن آيديولوجية حماس أو فتح. وحكومة أولمرت التي ترفض وقف إطلاق النار مع حماس في القطاع ترفض أيضا استمرار التفاوض مع فتح في الضفة. وإعلان حكومة محمود عباس تجميد الحوار مع تل أبيب لا يمنع حكومة أولمرت من مواصلة المحرقة في القطاع واستمرار الحرب السياسية على الضفة. فالمسألة في النهاية تتصل بالأولويات الإسرائيلية وليس لها علاقة بالاختلاف الآيديولوجي بين فريق وآخر.

موضوع الأولويات نقطة مهمة في إدارة برنامج الصراع. وبما أن المشروع العربي للتسوية وضع المسألة الفلسطينية في طليعة اهتماماته فمعنى ذلك أن الهجوم الأميركي - الإسرائيلي على القطاع يستهدف في الآفق البعيد تعطيل الحل العربي ومنع التوصل إلى توافق يضمن تشكيل قواعد انطلاق لتأسيس دولة فلسطينية «قابلة للحياة».

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2005 - الأحد 02 مارس 2008م الموافق 23 صفر 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً