النقاش الجدلي الدائر حول ما يسمّى بـ «وثيقة ضوابط تنظيم البث الفضائي الإذاعي والتلفزيوني في المنطقة العربية» ذكّرني بمقولة الناشط الحقوقي البارز هيثم منّاع حين زيارته البحرين، وذلك حينما تناول دور وزارات الإعلام وغيرها من نماذج مؤسساتية رسمية ينبغي أنْ تعنى بلعب دور المرشد والمساعد للمؤسسات والقنوات الإعلامية الخاصة والإعلاميين العاملين بها وذلك على العكس من أدوار الرقابة والوصاية والقمع التي تقوم بها وزارات الإعلام حاليا في الدول العربية بدرجات متفاوتة.
فبالعودة إلى موضوع الوثيقة فإنني لا أظن بأنه من الممكن الاختلاف مع التأكيد على أنّ إقرار مثل هذه الوثيقة حتى ولو أتت كوثيقة إرشادية مبدئية إنما يمثل وفي مراميها السياسية الفاضحة هروبا ضد منطق العصر، وإعلان جاهلي بالنكوص إلى حجر العصور البدائية الأولى، والارتجاع إلى الحقب الظلامية التي كان فيها الإنسان الأوّل يحاول أنْ يرمي القمر بحجر ربما ظنا منه أنه طائر يستحق أن يشوى، ولعل أفضل ما في أمر هذه الوثيقة هو أنها جاءت لتعكس مبالغ الجهل والخواء والضعف التي حققها النظام العربي الرسمي حينما بلغ مبلغا وجد نفسه فيه مضطراَ أشد الاضطرار إلى مناطحة قوانين الزمن والعصر!
والأدهى من ذلك هو أنّ مثل هذه الوثيقة «المبدئية» بحسبهم قد صممت لتعمل تلقائيا ضد أهدافها ومبادئها الظاهرية المعلنة سواء أكانت المتعلقة بصون اللغة العربية والقيم والثقافة والخصوصية العربية أم حتى ما يتعلق بعملية التنمية بأبعادها المختلفة، فهل من الممكن أنْ تكون هنالك تنمية إصلاحية اقتصادية وسياسية واجتماعية تحدث أثرا جوهريا إيجابيا من دون وجود تنمية إعلامية ونقلة نوعية في مجال الإعلام والاتصال لا يمكن تحديدها بقيود وعراقيل أمنية واستخباراتية كان المفترض أنْ تكون بائدة أفي طريقها إلى الاندثار، وليس أكثر مدعاة للضحك والهزال من الانتقادات الساخنة التي وجهها أحد الإعلاميين الفرنسيين أثناء ندوة قناة الجزيرة حول هذه الوثيقة حينما وصف الأمر برمته بأنه لا يعدو على أنْ يكون غباء في حد ذاته!
ولربما يقول قائل: إننا بذلك نقدّم خدمات محاماة ومحاباة ومغازلة مجانية لقناة الجزيرة المستهدفة أساسا بهذه الوثيقة ذات الصنيعة المصرية - السعودية المشتركة، ولكننا نقول إنّ قناة الجزيرة وإنْ كانت هي المستهدف الرئيسي بمثل تلك الوثيقة الشؤم فإننا لا ننكر أنها لوحدها فمعها «المنار» و»الأقصى» وغيرها من الفضائيات التي تقدّم خطابا ناقدا ومُغايرا للخطاب الرسمي الذي يرى وحدَه الكفيل بتحديد ماهية المصلحة الوطنية العامّة، كما إنك وبفرض أنك قد تختلف مع الاتجاه العام لقناة الجزيرة فإنك لا يمكنك أنْ تنكر أن إنشاءها وتأسيسها وانطلاقتها التي نالت الصدارة العالمية قد حققت نقلة نوعية حقيقية ومنشودة للإعلام العربي الذي قد لا يكون عاصر مثلها في تاريخه على الإطلاق، فالجزيرة ساهمت في تقديم وإظهار وإبراز الكثير من الوجوه والخطابات والرؤى النقدية الجريئة التي لربما لم يكن مأمولا الالتقاء معها ومشاهدتها والاستماع إليها في الشاشة وعبر الأثير وهو ما أدّى بالتالي إلى إثراء الوعي العربي وتنويعه بكل ما هو مستجد ومتقادم زمنيا.
وإنْ كانت من حجة يسوقها البعض بأنّ الجزيرة قد سوّقت واستضافت ودعمت الغوغائية والخطابات الشعبوية فإنما هم يدينون أنظمة الغنيمة العربية وعروش البؤس الراهن التي صنعت هذه الغوغائية والشعبوية بمخلفات فشلها وإفلاسها على الأصعدة كافة ، فهذه الغوغائية والشعبوية هي المبادرة الأهم للنظام العربي الرسمي وهي تنبت كما لو أنها الفطريات على شفاه وجلد الجلاد الرسمي بعصاته الأمنية والاستخباراتية المغلفة إعلاميا، فالمطلوب من هذه الوثيقة الفضفاضة السياسية بامتياز هو ليس مطلبا أمنيا يقتضي تصفية النقاد والمعارضين والخصوم السياسيين الذين يقفون جميعا ضد «المصلحة الوطنية» و»المصلحة القومية»، وإنما يرقى إلى أن يكون مطلبا استخباراتيا أيضا إذ هو يضع في دائرة الاستهداف كل أفعال «التلقي» و»الاستقبال» للآراء الناقدة والمخالفة، فالجميع معرض للمداهمة والتفتيش بفضل الذراع الأمنية والاستخباراتية البشعة والطويلة لوثيقة الموت الإعلامي العربي تلك التي لا تدرك أنّ الشمس لا يغطيها غربال!
هذه الوثيقة ما طالبت وادعت فإنّ مسعاها السياسي لن يطيل استهدافها ناحية فضائيات الدجل والشعوذة والخلاعة والإباحة والإغراء والأمركة الثقافية التي لا يمكن أن ننكر أنّ فيها روائح لأموال عربية محددة أيضا مهما يكن موقعها من الإعراب السياسي و»البزنسي»، كما أنّ هنالك فضائيات معروفة تثير الفرقة الطائفية والإثنية تجري في أوعيتها الدموية رائحة ذات الأموال، فمثل تلك الفضائيات والكرخانات إنما تقدّم خدمات جليلة للنظام العربي الرسمي عبر إشغالها وتضليلها للمشاهد العربي عن قضاياه الحقيقية والمصيرية!
أليس إذا من واجب كلّ إعلامي عربي مُلتزم صاحب رسالة مبدئية متسامية عن الخصومات السياسية والحساسيات المتأدلجة أنْ يكون له جهد مبارك في إعداد ميثاق شرف أخلاقي ومهني مضاد لوثيقة الموت والوبال الإعلامي القادمة؟!
كنت أتساءل ممازحا قبلها مع زميل لي حول إنْ كان معدو هذه الوثيقة السياسية ذات الصياغة الركيكة والمفردات الفضفاضة قد استلهموا خلال إعدادها نصوص قانون المطبوعات البحريني المتصل بالحبل السري بقانون العقوبات، فهذا القانون الذي كان لي الشرف في التعرّف عليه عن كثب من خلال المشاركة في دورة متخصصة نظمتها جمعية البحرين لحقوق الإنسان للصحافيين عن هذا القانون ذو الأذرع الاستخباراتية والأمنية الضاربة التي ربما تشمل عقوباته ما يتداول عبر الهاتف من أحاديث، وهو ما يشير هنا إلى إمكان التنصت على الهاتف لأجل «ضمان تطبيق القانون»!
أغرب ما في الأمر وهو أنه عقب إقرار وثيقة « ضوابط تنظيم البث الفضائي الإذاعي والتلفزيوني في المنطقة العربية» وجدنا نائبا فاضلا محسوبا على جماعة إسلامية مرتبطة روحيا وحركيا بالمملكة العربية السعودية الشقيقة يرحّب بحرارة بهذه الوثيقة ويُشيد بها، فهل كل ما يصدر عن الجارة والشقيقة الكبرى ولو حتى أنه يمثل لها مصلحة سياسية قطرية مشروعة يتم تلقيه من قبل صاحبنا وجماعته كما لو أنه أمرٌ وتفويض إلهي ورباني رغم تناقضات الواقع العديدة، أم أن هنالك فهما سطحيا جدا لهذا «الإطار الإعلامي» من قبل النائب وجماعته، وهذا حقيقة جلّ ما نتمناه فهو أهون بكثير من تهمة الاستزلام السياسي والروحي
إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"العدد 2003 - الجمعة 29 فبراير 2008م الموافق 21 صفر 1429هـ