جرى فصل العرب واليهود لعقود طويلة قبل إنشاء جدار الفصل في الضفة الغربية وحول غزة. عندما سافر الرئيس السابق أنور السادات إلى غزة العام 1977، أعلن أمام الكنيست أن فصلا كهذا لا يمكن إلا أن يأتي بالدمار والعزل والتغريب للعرب واليهود على حد سواء. جاء لمقابلة الإسرائيليين في منازلهم لتحدي مخاوفهم.
يعكس الجدار الفعلي بين الضفة الغربية و»إسرائيل» كيف قام الزعماء السياسيون الحاليون والعقائد السائدة بتعميق الصدوع الأخلاقية والعقلية والفعلية والاقتصادية والنفسية الإسرائيلية والفلسطينية. إلا أن التاريخ يظهر أن صدوعا كهذه بين الأعداء في المناطق الجغرافية المتجاورة ذات الاعتماد المتبادل تفشل في تحقيق سلام حقيقي أو استقرار دائم (مثلا ايرلندا الشمالية، جنوب إفريقيا أو ألمانيا).
هناك الكثير من الإستراتيجيات للتخفيف من الآثار المعادية للجدار. برأيي أن أهم التوجهات ستعالج هذا الفصل من خلال إيجاد مساحة إسرائيلية فلسطينية مشتركة بصورة أكبر.
يعتبر الجدار مأساويا للعلاقات العربية اليهودية لأنه يشجع عدم الاهتمام والتغريب والفصل والجهل فيما يتعلق بما يحصل على الجانب الآخر، وهي معا تشكل شعور الإنسان بالمسئولية تجاه النزاع. ويفتح الجدار الباب لعملاء العلاقات الاجتماعية، مثل السياسيين والواعظين والأساتذة، للإبقاء على صورة العدو على أنه «الآخر»، وفي الوقت نفسه تجاهل المعاناة الناتجة عن الفصل الفعلي والعقلي.
العلاج القصير الأمد والطويل الأمد للفصل الذي يفرضه الجدار هو التخفيف من أثره عبر التلاقي وجها لوجه وإيجاد المزيد من المساحات لمواجهة الآخر. ويستحق الأمر الاستثمار في مساحات مشتركة للّقاءات، طالما أن العلاقات متكافئة ومتوازنة وطالما أن المشاركين ممكّنين. يجب أن تزيد المساحات المشتركة المنتجة، مثل المواجهات بين الشباب والمغامرات الاقتصادية والمبادرات البيئية والاستقطاب غير العنفي وأعمال الاحتجاج، من قدرات الناس على أن يمارسوا النقد الذاتي وأن يروا الأخطاء على جانبهم، وأن توفر الآليات والأدوات والفرص للمشاركين لتطبيق الدروس التي تمت تعلّمها وأن تستكشف بدائلا لمستقبل مشترك (على سبيل المثال، مشروع شبابي مشترك يركز على الأثر السلبي للجدار، مع احتمالات المشاركة في مجتمعاتهم، من خلال ترتيب زيارات وتحويل الجدار إلى منحوتات في قراهم، وقيام الفنانين بعرض أعمالهم ضد الجدار وضد الفصل في المدارس... الخ).
تشكل المساحات الجديدة المشتركة، من مواجهات السلام والمشاريع التنموية المشتركة، إلى التبادل بين المزارعين ولقاءات رجال الدين، فرصة ثمينة، وموردا يحتاج لأن يتم بناؤه وإدارته بشكل مهني محترف بشكل يضمن نضوج المشاركين من خلال المواجهة وتمكينهم لنشر الرسائل التي تضفي عليهم الإنسانية في مجتمعات كل منهم. يجب معاملة معسكر صيفي لطلاب المدارس الثانوية من الفلسطينيين والإسرائيليين على أنه مساحة نادرة بل ومقدسة تقريبا. فلمبادرات السلام والحوار العربية الإسرائيلية المتنوعة دور تاريخي تلعبه في بناء المزيد من المساحات بأسلوب مبدع لأجل لقاءات مشتركة يتم فيها تحدي واقع جدار الفصل لا إدامته.
لقد أجبرت الجدران المتنوعة التي أنشأها السياسيون بين الإسرائيليين والفلسطينيين، الرمزية منها والفعلية، أجبرت الكثيرين على تبني عقلية الحصار. بالنسبة للإسرائيليين، تسيطر عقلية الحصار عندما يشعرون أنه يتوجب عليهم احتساب كل حركة يقومون بها عند سفرهم إلى الخارج. ولا يساعد الأمر كونهم محددون من السفر إلى خارج حدودهم المباشرة إلى الدول المجاورة، وهذا يمنعهم من معرفة كيف يفكر نظراؤهم الفلسطينيون ويعيشون.
كما يتم تعزيز عقلية الحصار الفلسطينية من خلال سجنهم الفعلي داخل جدار في قراهم، ومن قبل الحواجز ونقاط التفتيش العسكرية، ومن قبل وصول محدود إلى الطرح الإسرائيلي. وواقع الأمر هو أن عقلية الحصار لديهم قوية لدرجة أن العديد من الفلسطينيين يدهشون من تصرفات مجموعات التضامن في «إسرائيل».
تستطيع هذه المساحات المشتركة أن تنزع اللغز عن الصورة الوحشية للآخر، مقدمة الضمانة الوحيدة بألا تنمو الأجيال الفلسطينية والإسرائيلية المقبلة في واقع من التجنب والإنكار، وإنما تكون لها فرصة لإعادة إضفاء الإنسانية على الطرف الآخر. لن يتمكن الشباب الإسرائيلي بعد ذلك من القول «لم نكن نعلم»، ولن يستطيع الشباب الفلسطيني أن يقول بعد ذلك «لا نستطيع أن نفعل شيئا». سوف يقولون جميعا «إننا نحاول».
يجب أن تشكل الجدران حول غزة مثالا لما يمكن للإسرائيليين والفلسطينيين أن يتوقعوه في الضفة الغربية إذا لم يسعوا بنشاط للتسامي فوق ما يفصلهم: العنف المتصاعد وخلع الإنسانية عن الغزيين وحماس من قبل العالم الخارجي والمزيد من الاقتتال الفلسطيني والتهديدات المتواصلة لحدود «إسرائيل» الجنوبية.
كلما أوجد الإسرائيليون والفلسطينيون المزيد من المساحات المشتركة، كلما قلّت احتمالات أن يتجمهر الناس على الجانبين خلف قادتهم الذين يروجون لحلول أصولية ويعظون بعظمة طرف على آخر. يحتاج العرب واليهود الذين يحاربون الجدران والفصل الاجتماعي لأن يكسروا بأسلوب مبدع الخوف من العيش جنبا إلى جنب عن طريق إرسال رسائل ثابتة إلى مجتمعاتهم. يجب أن تشرح الرسالة أن اعترافا صادقا متبادلا وتطبيقا لحقوق الطرف الآخر في دولة ذات سيادة، متساوية ومستقلة هي الضمانات الأمنية الوحيدة لكلا الشعبين.
* مدير معهد بناء السلام والتنمية في الجامعة الأميركية، وهو خبير في حلّ النزاعات والحوار من أجل السلام، ويركز على النزاع الإسرائيلي الفلسطيني، والمقال ينشر بالتعاون مع «كومن غراوند
إقرأ أيضا لـ "Common Ground"العدد 2289 - الخميس 11 ديسمبر 2008م الموافق 12 ذي الحجة 1429هـ