عشرة أيام والحشود الزاحفة لا تتوقف. رجال ونساء، وأطفال وعجائز يأتون متكئين على عكازاتهم، فهم لا يريدون أن يفوتهم يوم «الأربعين» وهم بعيدون عن المدينة المقدسة.
يزحفون في النهار، ويستريحون في الليل، لا يعبأون بمأكل أو مسكن أو مشرب، كل همِّهم أن يحضروا زيارة الأربعين، فأي حماسة تدفعهم لتجشم المسرى وتحمل صعوبات المسير، ومن الذي أودع كل هذه المحبة في قلوبهم لشخص قتل في الصحراء قبل 1468 عاما؟
بعضهم يحمل راية، وبعضهم يحمل طفلا، وغالبيتهم لا تحمل زادا ولا تصطحب متاعا، فهم ضيوفٌ على «أبي عبدالله»، و«أبوعبدالله» كريمٌ ولن يضيّع زائريه. وهكذا تمتد موائد العشّاق وأيديهم بالطعام والشراب لضيوف الحسين... حبا وإكراما للحسين، فمن أجل عينٍ تُكرم آلاف العيون.
أجدادهم كانوا يأتون أيضا زحفا إلى أرض الطفوف، يستذكرون ما جرى على أبناء محمد (ص) من قتل الرجال وسبي النساء وترويع الأطفال، حتى حوصروا ونادى منادي الجيش الأموي: «احرقوا خيام الظالمين»!
قرونٌ طوالٌ وهم يزورون قبور الشهداء جيلا بعد جيل، وفي كل قرن يبرز طاغية أو جبارٌ ليفرض عليهم فنا جديدا من التعسير والتنكيل والعذاب، تحمَّلوها وسَمَوا بها على الجراح، ما ملّ الطاغي وما تاب الضحية، حتى وصلت إلى التصفية والقتل، فلم يكن الطريق إلى كربلاء سالكا ولا آمنا في أكثر الأحايين.
أول الطغاة فرض عليهم الأتاوات، فدفعوها عن طيب خاطر. ضوعفت الغرامات وتضاعف إصرارهم وتمسكهم بزيارة الشهداء. فكّر آخر بترهيبهم بقطع الأكف فأعطوها طائعين. طاغية ثالث صعَّد أكثر، فحكم عليهم بقتل واحد من كل عشرة زائرين، فقدّموا القرابين طوعا... فهل هناك من هو أغلى وأعز من الحسين؟
كل طرق العسف لم تحل بينهم وبين لقيا الحبيب، فرأى أحد الخلفاء العباسيين أن يمحو القبر من الأرض لينمحي من القلوب، فأمر بتسوية القبور بالأرض وحرثها، ولكن سرعان ما جاء أحد العشّاق المتيّمين يتلمس طريقه إلى القبر فشمَّ عطر الشهادة ونسيم الكرامة والإباء، فصاح:
أرادوا ليخفوا قبرَهُ عن وليِّهِ
ولكنّ طِيبَ القبرِ دلّ على القبرِ
وأخيرا... فكر أحد الخلفاء العباسيين بإجراء النهر على القبر لكيلا يبقى منه أثر، فكان الماء يجري حتى يصل إلى القبر فيحير عنه، ولذلك سُمّي «الحائر». جرَّبوا كل الطرق العنيفة ليبعدوا عنه العشاق ويدفعوا عن قبره المحبين، فما ازدادوا به إلاّ حبا وتعلقا وشغفا وعشقا... فهو ممن قال الله تعالى فيهم: «إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودّا» (مريم : 96)، ويا له من ودٍّ تنقضي الأيام ولا ينقضي ولا يحُول ولا يزول.
منذ أربعة عشر قرنا لم تتوقف قوافل العشاق والزوار المحبين، يأتون من أقطار شتى، يتحمّلون الأتاوات وقطع الأيدي والتفجيرات، من أجل أن يحظَوا بنظرة إلى قبر الشهيد ويلثموا ثراه. وإذا وقفوا على باب مسجده أخذوا يناجونه ويخاطبونه، فهم لا يزورون أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون. أكرمهم الله بالشهادة وألقى حبّهم في قلوب الملايين، وأحلّهم دار المقامة من عنده، مع الأنبياء والصديقين، وحسن أولئك رفيقا. فسلامٌ على الحسين وأهله وأصحابه في الخالدين.
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 2002 - الخميس 28 فبراير 2008م الموافق 20 صفر 1429هـ