استندت الوثيقة الثالثة من أوراق حركة الإخوان، التي اعتبرت خطوة باتجاه التأسيس الثاني،
إلى الأولى في توضيح موقفها، إذ كان «بيان للناس» قد أوضح أن «للشورى معناها الخاص في نظر الإسلام، فإنها تلتقي في الجوهر مع النظام الديمقراطي الذي يضع زمام الأمور في يد أغلبية الناس دون أن يحيف بحق الأقليات على اختلافها في أن يكون لها رأي وموقف آخران، وأن يكون لها حق مشروع في الدفاع عن هذا الرأي والدعوة إلى ذلك الموقف». وتعتبر المسألة المذكورة أهم إنجاز سياسي حققته حركة الإخوان في تطوير فكرة الديمقراطية إذ إنها لا تعتبر الديمقراطية هي مجرد حكم الأكثرية (الغالبية السكانية أو الانتخابية) بل أيضا حكم الأقلية ومشاركتها في القرار أو الاعتراض عليه. ثم تعيد التذكير بأن الإخوان شاركوا في بعض المجالس النيابية والانتخابات التشريعية و «استُبْعِدوا خلال بعضها الآخر عن تلك المشاركة، ولكنهم ظلوا على الدوام ملتزمين بأحكام الدستور والقانون حريصين على أن تظل الكلمة الحرة الصادقة سلاحهم الذي لا سلاح غيره...».
انطلاقا من تلك القناعات صاغ الإخوان فكرتهم الجديدة التي تعتبر خطوة حاسمة في تحديد مفهومهم للشورى ومصدر السلطات وهي الفكرة التي تم إيضاحها في الوثيقة الثالثة.
يؤكد بيان «الشورى في الإسلام وتعدد الأحزاب» «أن الأمة هي مصدر السلطات، فهي التي تولي من تثق في دينه وأمانته وخبرته وعلمه ومواهبه وكفاءته ما تحدده له من أمورها ليقوم عليها بالعدل والإحسان والإنصاف». وتوجز تاريخ الشورى في الإسلام وتوضح فكرة تعدد الأحزاب في المجتمع المسلم وتؤكد أن الخليفتين أبا بكر وعمر (رضي الله عنهما) لم يدعِّ أي منهم «عصمة أو ارتفاعا عن احتمال الخطأ، بل قال كل منهما على الملأ إنه بشر كسائر البشر، يصيب ويخطئ وإن من حق أفراد الأمة أن يصوبوه إذا أخطأ». (ص 7 و8 و9 و24 و25).
تنطلق الوثيقة من فكرة فقهية وهي «الدين هو الأساس، والسلطان حارس» لذلك فإن «الأمة هي مصدر السلطان (...) وإن الشعب هو الذي له الحق أن يولّي باختياره الصحيح من يرتضي دينه وأمانته وعلمه وكفاءته، ليقوم على ما يحدده له من أمور الدولة»، وتطالب الوثيقة بتوازن مؤسسات الدولة وجعل الحكم «شورى استمدادا من سلطة الأمة ويحدد مسئولية الحكام أمام الشعب، وكيفية محاسبتهم وتصويبهم». وحتى تكتمل الصورة تؤكد «وجود مجلس نيابي له سلطات تشريعية ورقابية ذات فعالية تتمثل فيه الإرادة الشعبية الحقيقية نتيجة انتخابات حرة ونزيهة وتكون قراراته ملزمة».
بعدها تنتقل الوثيقة إلى نقطة لا تقل خطورة وهي صلاحيات السلطات التنفيذية والرئاسية فتذكر أن رئيس الدولة «ما هو إلا وكيل عن الشعب» وتطالب بـ «أن تكون رئاسة الدولة لمدة محددة، ولا يجوز تجديدها إلا لأمد محدد، وذلك ضمانا لعدم الطغيان». وتنتهي إلى إعادة تأكيد حق الاختلاف وتنظيم المباح وتعدد الآراء والتسامح وسعة الأفق والبعد عن التعصب وضيق النظرة. وتختم حركة الإخوان وثيقتها بقبول فكرة تعدد الأحزاب و «قبول تداول السلطة بين الجماعات والأحزاب السياسية وذلك عن طريق انتخابات دورية» (ص 26 و27).
رد السلطة
السؤال كيف تعاطت السلطة في مصر آنذاك مع هذا التطور الحاسم في فكر الإخوان؟
شنت السلطة حملة اعتقالات واسعة وأعلنت إحالة 45 من قيادات الإخوان إلى القضاء العسكري كانت اعتقلتهم في 22 يناير/ كانون الثاني 1995 (مجموعة أمين مساعد نقابة الأطباء عصام العريان) ومجموعة رئيس نادي أعضاء هيئة التدريس في جامعة أسيوط محمد السيد حبيب (اعتقلت في 18 يوليو/ تموز 1995) وتم حبسهم جميعا على ذمة القضية رقم 136 لسنة 1995. ثم طورت هجومها على الإخوان فأقدمت على إقفال مكتبهم الإعلامي في القاهرة بذريعة أن الحركة محظورة بموجب قرار صدر في العام 1954. وتعزز هجوم السلطة بشن حملات ضد معسكرات الشباب الكشفي (المرخص من قبل وزارة الداخلية) في منطقة العامرية في الإسكندرية واعتقلت 200 شاب. كذلك أخذت بمحاربة الإخوان ومنعهم من المشاركة أو تحمّل مسئوليات نقابية ومهنية بتعطيل المؤسسات المدنية ومنع كل أنشطة الهيئات الأهلية وخصوصا في الأحياء الشعبية. وأدى موقف السلطة إلى استنكار واسع من القوى السياسية والنقابية التي طالبت بإلغاء قرار تحويل الإخوان إلى محاكم عسكرية. كذلك استنكرت صحيفة حزب التجمع (اليساري) المنافس لحركة الإخوان واعتبرت أن الخطوة «ظاهرة خطيرة، تدعو إلى القلق الشديد، ومؤشر غير مريح على نوع الأساليب التي تنوي الحكومة استخدامها ضد المعارضين في الانتخابات التشريعية القادمة». (أمينة النقاش، «الأهالي» 20 سبتمبر 1995).
من الواضح إن تعاطي السلطة الأمنية في مصر بهذا الأسلوب الانقلابي ضد مبادرات الإخوان يعزز خط التطرف الذي تقوده تنظيمات الجماعات الإسلامية ويؤكد في الآن نفسه أن التوافق على مسألة الديمقراطية لا يكفي أن تحسم جهات المعارضة موقفها منها بل على الدولة نفسها أن تحسم خيارها أيضا من المسألة. فالانغلاق على المعارضة والانقلاب على المجتمع ومحاولة السيطرة عليه وسد كل المنافذ أمام الناس للتعبير عن مواقفهم وطموحاتهم تغلق باب التطور نحو تأسيس مجتمع سياسي وتكرس استبداد النخبة وتحكمها في الحياة العامة المدنية والأهلية التي هي من أبسط حقوق المواطن، وتتحول الدولة من قوة دافعة تقود التحولات إلى قوة معرقلة تعطل إمكانات التوصل إلى صيغة تسوية تاريخية تنقذ المجتمع من التفكك والانهيار الشامل. ولاشك في أن تيار الاستئصال العلماني في السلطة المصرية يلعب دوره الخفي لتوريط الدولة في مشكلات أمنية داخلية لا نهاية لها في وقت هي بأمس الحاجة إلى توسيع قاعدتها الاجتماعية - السياسية لمواجهة المخاطر المتأتية من تصلب المشروع الصهيوني وتهديداته المستمرة للمنطقة عموما وموقع مصر ودورها القيادي خصوصا. فتيار الاستئصال يهدف من وراء تحريضه الدائم إلى منع تطور المجتمع المدني - الأهلي وملاقاة الدولة على منتصف الطريق؛ الأمر الذي يبرهن بالملموس فكرة أن «إسرائيل» هي الدولة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة بعد أن حلت نكبات الحروب الأهلية في لبنان وحصل ما حصل في السودان والجزائر وتونس وغيرها من البلدان.
هذا بالضبط ما تريده مجموعات الضغط في الولايات المتحدة. فالمستشرق برنارد لويس يبذل جهده لتأكيد فكرة أن «إسرائيل» هي الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط - إلى جانب تركيا - ليشير إلى ضرورة استمرار التحالف الاستراتيجي بينها وبين الولايات المتحدة لمواجهة الحركات الإسلامية الأصولية في «الشرق الأوسط الجديد» الذي برأيه اتسعت مساحته الجغرافية بعد تفكك الاتحاد السوفياتي. ويؤكد لويس في مطالعاته الاستشراقية مرارا أن الديمقراطية الإسرائيلية أسستها غالبية «أوروبية من السكان في أعقاب الإدارة الاستعمارية البريطانية. وهي استمرت بشكل ملحوظ رغم التغييرات الديموغرافية والسياسية، ولم تسقط رغم ضغط عقود من حالة الطوارئ العسكرية». فالمستشرق لويس يلمح إلى أن «إسرائيل» ديمقراطية؛ لأنها أوروبية في تكوينها السكاني، بينما الدول العربية ليست كذلك؛ لأنه ينقصها المجتمع المدني الحقيقي الذي يحافظ على تماسك الدولة وتفتقر إلى «حسّ حقيقي بهوية وطنية مشتركة أو ولاء مطلق للدولة - الأمة». (مجلة قراءات سياسية، قراءة جديدة للشرق الأوسط، ربيع 1993).
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2002 - الخميس 28 فبراير 2008م الموافق 20 صفر 1429هـ