في مثل هذا اليوم، قبل 1368 عاما، بدأ الصحابي جابر بن عبدالله الأنصاري (رض) يومه بالاغتسال بماء الفرات، ولبس أحسن ثيابه، وتعطّر، وأمر خادمه عطيّة العوفي بالتوجّه إلى قبر الحبيب.
وهو يمشي الهوينى، كان يسترجع صور الأيام الجميلة، حين كان يؤمّهم النبي محمد (ص) في الصلاة، وكيف كان أحد الأطفال الأثيرين على قلبه يدخل المسجد ويصعد على ظهره، فيطيل سجدته رقة وحَدَبا عليه. كان ذلك قبل خمسة وخمسين عاما، أمّا اليوم فقد جاء يزوره شهيدا في أرض غربةٍ وبُعد مزار.
وهما يقتربان من القبر، لاحتْ في الأفق غمامةٌ من بعيد، فجفل عطية العوفي، ولاذ مع سيّده جانبا للاختباء عن أعين العسس المتربصينَ، وبعد ساعة تبين أنها قافلة صغيرة من النساء والأطفال عائدة من الشام إلي كربلاء. ربما هاجهنّ الشوق للقاء أحبتهنّ بعد أربعين يوما من الفراق. وعندما وصل الركب إلى كربلاء لم يرين خياما في الأفق، وإنما لاحتْ لهنّ بعض القبور. وقبل أنْ تنوخ الجمال، ألقت بعض النسوة أنفسهنّ على قبور الأحبّة.
هناك عند قبور الشهداء التقى الصحابي بأحفاد وبنات صاحبه محمد (ص)، يعزيهن ويعزينه، ويواسيهن ويواسينه، فهو لا يقل عنهن فجيعة وألما، حتى سمع منهن ما لاقين من قصص الثأر والتشفي وغلظة وقساوة الأعداء. وأخيرا... أخذ يتمرّغ على القبر ويلثم ترابه، وهو يتذكّر وجه الحبيب النائم تحت الثرى.
بعض الروايات التاريخية تقول إنّ القافلة عادت برؤوس ستة عشر شابا وكهلا من آل بيت محمد (ص)، بينما تذهب أخرى إلى انها دفنت في الشام. وأقامت القافلة الصغيرة عند قبور أحبابها ثلاثة أيام، استكمالا للضيافة واستفراغا لما تبقى في مآقيهن من دموع.
وفي اليوم الأخير... صاح الحادي مؤذِنا بالرحيل. ما أصعب لحظات الوداع الأخيرة، التي يلتقطها الشاعر فيضع اللمسة الأخيرة على اللوحة المتفجرة بالأحزان، فيخاطب النسوة المغادرات إلى ديارهنّ البعيدة:
خذوا لكم من دم الأحبابِ تحفتَكُم
وخاطبوا الجدّ هذي تحفة ُالسفرِ
وهكذا ركبت النساء والأطفال ظهور المطايا مرّة أخرى، لعلّها آخر فصول رحلة السبي الطويلة، فأمامها ثلاثة أسابيع أخرى حتى تحط رحالها في يثرب. هنالك يمكنها أنْ تنزل عند قبر جدّها محمد؛ لتبثّ له أحزانها وما لاقته على أيدي الجفاة الغلاظ من أمته.
لما دنت القافلة من المدينة، طلب علي بن الحسين (الشاب الوحيد الذي سَلِمَ من المذبحة في كربلاء لمرضه)، من الحادي أنْ يؤذِن الناس صائحا بهذا البيت:
يا أهل يثرب لا مَقام لكـم بها قُتل الحسين فمدمعي مدرارُ
الجسمُ منه بكربلاء مضرجٌ والرأس منه على القناةِ يُدار
وهكذا هبّ أهل المدينة لاستقبالهم، تتقدّمهم زوجة علي (ع) فاطمة بنت حُزام الكلابية، أم البنين الأربعة الذين استشهدوا في كربلاء، وكانت فاجعتها لا توصف إذ تخرج إلى البقيع كلّ يوم بطفل ابنها العبّاس، فيجتمع أهل المدينة لسماع رثائها ويبكون لندبها:
أنبئتُ أن ابني أصيب برأسه مقطوعَ يد
لو كان سيفُك في يديك لما دنا منه أحد
لعلّ الصحابي جابرا لم يكن يدري بأنه وضع سنّة للملايينَ من زوّار الحسين القادمينَ عبر القرون، بينما وضعت أم البنين البذور الأولى لفن الرثاء والحماسة المحلّقة في سماء كربلاء
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 2001 - الأربعاء 27 فبراير 2008م الموافق 19 صفر 1429هـ