توغل الجيش التركي في شمال العراق أثار ردود فعل دولية وإقليمية ورسمية. الولايات المتحدة لم تعارض بشدة، ولكنها طالبت أنقرة بالإسراع في إنجاز مهماتها الأمنية. الحكومة التركية قالت إن العملية محدودة جغرافيا، ولكنها مفتوحة زمنيا؛ لأن الجيش لن ينسحب أو يتراجع إلى الحدود الدولية قبل استكمال المهمات التي دخل من أجلها. الحكومة الكردية المحلية أعلنت الاستنفار، ولكنها لم تتحرك لصد الهجوم باعتبار أن العمليات تحصل في مناطقَ جبليةٍ بعيدةٍ عن مناطقها ووعرة في مسالكها ومخارجها. والحكومة العراقية في بغداد احتجت وطالبت تركيا بسحب قواتها وأبدت استعدادها لضبط الحدود ومنع عناصر الحزب الكردستاني التركي من التحرك واستخدام أراضي العراق منطلقا للهجمات.
كل هذه الفوضى السياسية التي عصفت ببلاد الرافدين تشير إلى وجود متغيرات إقليمية أخذت تحيط بالعراق بعد انهيار مقوماته وتحطم كيانه. عمليات «القشرة» التي بدأ الجيش التركي تنفيذها منذ سبعة أيام ضد ميليشيات حزب العمال الكردستاني في الشمال محدودة عسكريا، ولكنها تطلق إنذارات سياسية بشأن هوية بلاد الرافدين وقنوات الصراع على النفوذ. فالمنطقة التي يتحرك فيها الجيش التركي تعتبر عراقية من ناحيتي السيادة الوطنية والقانون الدولي، ولكنها موضوعيا تعتبر منطقة كردية شبه مستقلة وتخضع لقراءات أمنية تعطي ذريعة للقوى الإقليمية للتدخل لحماية حدودها من الاختراق.
عدم وضوح هوية منطقة العمليات يطرح أسئلة عن مستقبلها. العراق بعد الاحتلال الأميركي في مطلع العام 2003 تحول إلى أرض مكشوفة تجذب إلى ساحتها كل القوى الراغبة في اختبار نفوذها. وبسبب استباحة الولايات المتحدة سيادة دولة تتمتع بعضوية كاملة في الأمم المتحدة من دون تغطية شرعية دولية شجعت مختلف المراكز والمواقع المحلية والإقليمية على التحرك السياسي وممارسة أدوار تتناسب مع طموحاتها وغاياتها. ومهما كانت النتائج فإن إدارة واشنطن تتحمّل في النهاية المسئولية بصفتها القوة الدولية التي اتخذت قرار الحرب واعتدت عن سابق تصور وتصميم على كيان سياسي مستقل ويتمتع بسيادة قانونية.
مخالفة الولايات المتحدة الشرعية الدولية ومواثيق جنيف والأمم المتحدة فتحت الطريق للاصطراع الأهلي وأعطت ذريعة لكل القوى الراغبة في الهيمنة أو اقتطاع حصتها من الغنيمة للتدخل بذريعة حماية أمنها وحدودها وتكوين مناطق نفوذ في مجالها الجغرافي الحيوي. وبسبب تلك المخالفة الكبرى التي قوضت الدولة وأودت بهوية العراق وشطبته من المعادلة العربية كرّت سلسلة المخالفات الصغرى التي تذرعت بالمخاطر المتأتية من ساحة مفتوحة للتدخل في شئون بلد مسلوب الإرادة.
التدخل العسكري التركي المحدود في حدود القشرة العراقية في الشمال لا يخرج عن هذه المعادلة (الفوضى البناءة) التي أسستها الولايات المتحدة في بلاد الرافدين. والتدخل التركي في الشمال يقارب سياسيا ذاك التدخل الإيراني في الجنوب وما استتبعه من احتجاجات بعض المسئولين العراقيين على طهران واتهامها بسرقة النفط (ألف بئر) ونهب ثروة نقدية تقدر يوميا بنحو مئة مليون دولار.
صورة العراق بعد الغزو الأميركي تغيرت وبدأت الآن سياسة تعديل هيئة دولة انقرضت عمليا واختفت فعليا من الوجود. وعملية إعادة تأسيس الدولة (الدويلات) البديلة تحت مسميات متنوعة تحتاج إلى وقت حتى تتضح الملامح الميدانية لوجه «العراق الجديد» وذاك «النموذج الساطع» الذي بشرت واشنطن به شعوب «الشرق الأوسط». تقويض الدولة الذي أشرفت عليه إدارة جورج بوش (تيار المحافظين الجدد) لعب دور المحرض الدولي للقوى الإقليمية على التحرك الميداني والتدخل سياسيا في شئون بلاد الرافدين والعمل على الأرض لتأسيس مواقع نفوذ تابعة لمظلاتها وطموحاتها.
استراتيجية التقويض استنفدت أغراضها بعد خمس سنوات على الاحتلال وبدأت الآن سياسة التشطير الإقليمي لمناطق النفوذ من خلال مراكز قوى أهلية وجغرافية. وبما أن العراق منطقة خصبة بالأكثريات والأقليات الطائفية والمذهبية والأقوامية كان من البدهي أن تنفلق أرض الرافدين وتتوزع الولاءات بناء على موروثات محكومة بأهواء عصبية سابقة لفكرة الدولة الوطنية الجامعة. فالمشترك العراقي حين تحطم وانهار وتوزع على شظايا أهلية تحركت القوى الإقليمية لأخذ نصيبها السياسي وحصتها الجغرافية من النفوذ والثروة.
التشطير بعد التقويض
الآن بدأ العراق ينتقل من مرحلة التقويض (الاحتلال الأميركي) إلى مرحلة التشطير (توزيع أراضيه على مناطق نفوذ). وهذه المرحلة لن تكون سهلة وربما ستتطور لاحقا في حال أعاد الجيش الأميركي انتشاره وترك مساحات واسعة من الفراغات الأمنية. ومثل هذا الاحتمال ليس مستبعدا بعد أن قررت واشنطن سحب 5 ألوية في مطلع الصيف المقبل والاحتفاظ بـ140 ألفا من جنودها لمدة زمنية تخضع لمجموعة اعتبارات داخلية (الانتخابات الأميركية ونتائجها) وإقليمية (الاتصالات الجارية مع تركيا وإيران).
بناء على هذه الاعتبارات والاتصالات يمكن تصوّر هيئة جديدة للعراق في ضوء المتغيرات الميدانية التي حصلت وتلك التحولات الديموغرافية السكانية التي يرجح أن تحصل خلال الفترة المقبلة. فالتدخل التركي الذي بدأ عسكريا في شمال العراق حصل بعد أخذ الضوء الأخضر من واشنطن وينتظر أن يتطوّر سياسيا بالتفاهم مع الولايات المتحدة. والنفوذ الإيراني الذي بدأ ينتشر في جنوب العراق حصل بعد أخذ الضوء الأخضر من واشنطن وينتظر أن يتطوّر سياسيا بالتفاهم مع أميركا. وهذا يعني في الحسابات الجغرافية الإقليمية أن الولايات المتحدة قررت سياسيا توزيع مناطق الشمال والجنوب على دائرتين تمارس أنقرة وطهران نفوذهما بهما لضبط الأمن ومنع التسلل من المعابر والممرات الدولية. وتوزيع العراق على مناطق نفوذ إقليمية يساعد الاحتلال على مراقبة ما تبقى من مساحات تمتد من الوسط إلى الغرب وتنظيمها.
«ما تبقى» من العراق غير واضح الهوية أيضا. ففي هذه المناطق تتكاثر الملل والنحل والأقوام والعشائر وتتنافس على بسط سيطرتها استنادا إلى مراكز قوى أهلية طائفية ومذهبية. ومثل هذا التنافس سيرسم خطوط تماس ساخنة لا يستبعد أن تتحول إلى تجاذبات عسكرية بقصد توسيع دوائر النفوذ من الشمال أو الجنوب. وبسبب المخاوف المتبادلة سارعت تركيا إلى إرسال جيشها إلى «قشرة» في الشمال للضغط على الأكراد وحكومة الاحتلال قبل عشرة أيام من بدء الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد زيارته لبغداد. فالزيارة تعتبر الأولى لرئيس إيراني منذ 29 سنة وجاءت في ظل الاحتلال الأميركي وموافقته وبعد سلسلة اتصالات «فنية» و «تقنية» أجريت تحت مظلة حكومة نوري المالكي.
موضوع «ما تبقى» من العراق سيشكل في الفترة المتبقية من ولاية بوش ساحة للتنافس الإقليمي الذي يعتمد على علاقات أهلية توزعت على مناطق طائفية ومذهبية وأمراء حرب. تركيا تريد كسب معركة الأكراد لضمان أمنها ونفوذها في شمال العراق وصولا إلى غربه. وإيران تريد كسب ولاء حكومة المالكي لتأمين مواقعها الحيوية في جنوب العراق وصولا إلى وسطه (النجف وكربلاء). وبين تركيا وإيران يرجح أن تضمحل هوية العراق العربية وتتفسخ أهليا وتنشطر جغرافيا إلى مناطق نفوذ للقوتين الكبريين إقليميا.
عمليات «القشرة» التي بدأت في الشمال تتجاوز نطاق الأمن وتتصل مباشرة بالحدود السياسية وتوابعها الإقليمية. والاحتلال الأميركي الذي يتحمّل مسئولية تقويض دولة العراق يتحمّل أيضا مسئولية تشطيره وتعديل هيئته وتغيير صورته. وهذا الجديد الذي أسسته واشنطن في «الشرق الأوسط» يتوقع أن يأخذ مداه الزمني وربما الجغرافي في حال لم تتدارك دول الجوار العربية والمسلمة مخاطر الانزلاق نحو الحفرة الأميركية وتتحرك وتتعاون لمنع تبخر العراق من الخريطة لأغراض ضيقة وصغيرة
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2001 - الأربعاء 27 فبراير 2008م الموافق 19 صفر 1429هـ