العدد 2001 - الأربعاء 27 فبراير 2008م الموافق 19 صفر 1429هـ

«السلف» والتوظيف السياسي للعقيدة ولطاعة ولي الأمر

خالد المطوع comments [at] alwasatnews.com

مررت في الفترة الأخيرة بكآبة ثقيلة وسوداء اعتدت على مواجهتها بشكل مستمر ومتواصل من فترة إلى فترة أخرى لكنما هي عقاب أسود يحوم في سماء نفسي قبل أن يغرز مخالبه في لحوم فرائس الأحلام والآمال التي أوشكت أن تكون صرعى، ومثل هذه الكآبة ما آن لها أن تتكوم ككرة سوداء معلقة تترنح ذات اليمين وذات الشمال لو لم تجد لها خير رافد مغذي وخير سند في الأوضاع البائسة التي تمر بها بلادنا والمنطقة، فجميع من يقطن هذه النتفة الصغيرة من الأرض أصبح وكأنما هو معرض في كل وقت لأن يخضع لتسميم إشعاعي أو تسميم ضوضائي طائفي لا حد له أينما ولي وارتحل في ربوع الديار التي أوشك قاطنوها على أن يتناءوا ويتحازبوا بعيدا عن مشروعات وأطروحات ومبادرات الحل المشترك!

وأجزم والله أنه ما كان لمثل هذه الكآبة أن تنجلي وتنكشف غمائمها من دون أحاديث حميمة مع عدد من الأصدقاء الأعزاء، ومن بينهم أبوإيمان الذي حدثني عن معاودته لعب كرة القدم، فأخبرته بأنني أنا أيضا للأسف ألعب الكرة ولكن في مرمى وفي لعبة أخرى غير كرة القدم التي يعرفها ويعرف قواعدها أبوإيمان وغيره من الإخوة الأعزاء، ولكن الفرق بين لعبة كرة القدم والكرة التي ألعب بها ويلعب معي الكثير من الرفاق والخصوم والأعداء هو أن في هذه اللعبة التي تورطت وتورطنا بها جميعا لا يوجد هنالك مرمى أو حارس تصوب نحوه الكرة حتى تحرز أهدافا وتسجل نقاطا، وإنما عليك أن تركل وتصوّب هذه الكرة بقوة إلى بطن ووجه وصدر وفخذ زميلك في اللعبة أيّا كان موقعه، ولا مانع من ضرب ما تحت الحزام عسى أن تحقق لك نقاطا وأهدافا ساخنة تظفر بها ولو مؤقتا، واللبيب هو من يستمر ويتسمر حتى النهاية من دون أن يكل ومن دون أن «ينصلخ» بالكرة فهذا هو الأستاد الوطني السياسي الذي يلعب فيه الجميع من دون موعد لانتهاء الشوط أو المباراة!

وإلى جانب التنفيس عبر الأحاديث شرعت كدأبي المعتاد على البحث عن إذاعة للقرآن الكريم عسى أن تهدأ وتطمئن وتخشع نفسي بكلام الله تعالى الأقرب إلى المهج والأرواح التي تبحث عن رحمته وغفرانه وفرجه، فاستقرّ الأمر على الاستماع إلى إذاعة القرآن الكريم التي تبث من إحدى الدول العربية الشقيقة، وكانت حينها تبثّ برنامجا يتحدث فيه أحد المشايخ عن «الفساد والإفساد في الأرض»، وعلى رغم الفساد قد ظهر في البر والبحر وتنوعت مظاهره وظواهره ومصائبه إلا أن الشيخ الفاضل آثر أن «يمحور» حديث الندوة في فلك «طاعة ولي الأمر» وكيف أن التردد في فعل ذلك هو المظهر الأبرز للفساد في هذا العصر!

واصلت الاستماع إلى حديث الشيخ بعد أن أغلقت جميع منافذ الإضاءة ليعمّ الظلام الدامس وهو خير لحاف بالنسبة إلي حين النوم والاسترخاء عدا منفذ زجاجي يجلي خيط السماء الترابية الضبابية العاصفة في الخارج، وحينما وصلت إلى نقطة معينة من الحديث غيّر بعدها قناعتي بأن العراق المحتل هو الدولة الوحيدة في العالم التي تقوم بعمل إعلانات دعائية لها في مختلف القنوات الإعلامية إلا أنني اكتشفت بعدها أنه للأسف هنالك أيضا دول تلجأ إلى إذاعة القرآن الكريم لعمل هذه الإعلانات الدعائية، ووصل الشيخ المتحدث بعدها إلى نقطة هامشية جدّا لكنما يتحرّج أن تخرج من فاه وقد قال فيها: «لا تجوز طاعة ولي الأمر في أمر معصية الله تعالى» ليستطرد فوريّا بالحرف الواحد «معصية ولي الأمر من معصية النبي (ص) ومعصية النبي (ص) من معصية الله تعالى» وربما من قائل بعدها «عظمة على عظمة على عظمة يا مولانا»!

كيف يجوز القول إن عصيان ولي الأمر يقود إلى عصيان الله تعالى ولا تجوز طاعة ولي الأمر في معصية الله تعالى في الوقت ذاته؟!

لم أكن أعلم من قبل أن هنالك جماعات محسوبة على «السلف» قد أدمنت التفلسف وامتهان الفلسفة من منظور جبري وقدري!

الشيخ، ومن أمثاله الكثير والكثير في واقعنا، واصل وفصل واستعرض محذرا من الشرك بالله تعالى عبر الغلو في محبة الأولياء الصالحين وآل البيت وغيرهم، ولكنه كغيره لم ينبس ببنت شفة عن الغلو في طاعة ولي الأمر الذي من الممكن أن يعد في حد ذاته محذورا شرعيا ومقودا... لتفصيل المزيد من الفتاوى الشرعية المسيسة واجتراح وتجرّع البدع والهرطقات بمسمى الدين الأصيل والشرع الحنيف!

ألا يمكن أن نعد مظاهر الغلو السائدة في طاعة ولي الأمر ولو سلبك مالك ولو جلد ظهرك، وكأنما هو صاحب القضاء والقدر، شركا أكبرا بالله تعالى؟! هذا إن لم يكن عودا وثنيا وجاهليا ونقضا لروح الدين الإسلامي وإبطالا لصميم شرعه المنصف، بل إن البعض في إعادة استغلاله وتوظيفه بشكل سياسي فج للآية الكريمة «أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ» (النساء: 59) لا يراعي للترتيب وللحكمة الربانية في ذلك أي اعتبار، ومنهم من يفرغ مفردة «ولي الأمر» من مدلولاتها الحقيقية ويقصرها على القيادة السياسية القاهرة، ويبدو كمن يروج لعقيدة تثليث جديدة قوامها «الله» و «الرسول» و «ولي الأمر»، فهل من «السلف الصالح» من كان يحمل صليبا؟!

ولو شئنا أن نلجأ إلى مساءلة منطقية داخلية تقارن بين الشركيات ذاتها وأشكال الغلو المتعددة في التقديس والتعصيم لرأينا مثلا أن الغلو في محبة واتباع عباد الله الصالحين من أولياء وعلماء وغيرهم أفضل وأجدى وأهون درجة بكثير من الغلو في طاعة ولي الأمر وما يخلّفه من أثر مرذل للنفس!

الجميع بمن فيهم بعض جماعات «السلف» يلجأ بشكل فج وانتهازي إلى التوظيف السياسي للعقيدة ولطاعة ولي الأمر وحتى لطاعة العلماء والأولياء وكأننا قد عدنا إلى الملعب ذاته الذي لا يوجد به مرمى حيث الجميع يتطاحن على التقاذف والتضارب بذات الشركيات السياسية، فمن منهم لا يشرك بالواحد الأحد الفرد الصمد؟

هل هم من يغلون في تقديس عباد الله الصالحين أم من يغلون في تقديس «أولي الأمر» ويعنون بهم السلطويين القاهرين؟ هل الجميع مشرك بالله تعالى والعياذ بالله؟

إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"

العدد 2001 - الأربعاء 27 فبراير 2008م الموافق 19 صفر 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً