العدد 2001 - الأربعاء 27 فبراير 2008م الموافق 19 صفر 1429هـ

نيو أورلينز... يحب الله الأرض كلها

أيام في أميركا (3)

واشنطن، رينو، نيو أورلينز - عادل مرزوق 

27 فبراير 2008

«لقد شتت الحروب الصليبية والحروب الإنجليزية شمل الأشراف، ووزعت أراضيهم، وقامت البلدية بإدخال الحرية والديمقراطية في صميم البلاد الملكية الإقطاعية، وساوى اختراع البارود بين السيد والتابع في ميادين الحرب، وفتح فن الطباعة المصادر كلها لعقول جميع الطبقات، وجلب البريد العلم والمعرفة إلى باب صاحب الكوخ كما جلبها لصاحب القصر المنيف، وقررت البروتستانية أن كل الناس سواء في تلمسهم الطريق إلى مرضاة الله، وفتح استكشاف أميركا آلافا من الطرق الجديدة إلى الثروة، وصل بالمغامرين المغمورين إلى الغنى والقوة».

«إن الناس لا يفسدون بممارستهم السلطة، ولا هم ينحطون ويذلون بالتزامهم عادة الطاعة والإذعان، ولكنهم يفسدون بممارستهم لسلطة يعلمون أنها غير مشروعة، وينحطون ويذلون لانقيادهم لحكم يعتبرونه مغتصبا وظالما».

«الدين الذي أعلن على الملأ أن الناس جميعهم متساوون في نظر الله، لا يسعه إلا أن يقرر أن جميع المواطنين متساوون في نظر القانون. ولكن ظروفا وأحداثا تآمرت تآمرا غريبا، فوجد هذا الدين نفسه قد تورط في وقت ما واتصل بالنظم التي تعمل الديمقراطية على القضاء عليها، حتى أنه كثيرا ما رفض المساواة التي يحبها وجعل يلعن قضية الحرية بوصفها خصما له، وهي تلك القضية التي يكمن جهودها لو أنه تحالف معها».

«أما أميركا الشمالية فيختلف مظهرها عن ذلك كل الاختلاف، فكل شيء فيها رزين متزن، كأنما خلقت لتكون مقر ذوي العقول، على حين خلق الجنوب مرتعا للراغبين في اللذات الحسية».

«نشاهد في أميركا... وجوها شبه كثيرة بين هؤلاء المتوحشين تنبئ عن وحدة أصلهم جميعا، ولكنهم كانوا في الوقت نفسه يختلفون عن سائر أجناس البشر المعهودة (...) فهم لم يوجدوا فيها - الهنود الحمر في الأراضي الأميركية - إلا انتظارا لمجيء غيرهم، فتعصبهم الشديد الذي لا هوادة فيه، وشهواتهم الجامحة، ورذائلهم، هي التي قضت عليهم بالهلاك المحتوم».

القسيس دي توكفيل في كتابه «الديمقراطية في أمريكا»

استغرقت السيدة الثمانينية المضيافة روزماري فولر ثلاثة أيام بلياليها في إعداد قائمة الضيافة لوفدنا العربي الذي يزور مدينتها نيو أورلينز بولاية لويزيانا. وفيما كانت روزماري مشغولة بالتقديم والترغيب كنا جميعا نتقارع سياسيا مع ضيوفها العرب، والعرب بالمناسبة هم أكثر ما قد تصادفه في هذه المدينة التي لاتزال في حال من «فوبيا الماء» عقب نكبة الإعصار «كاترينا» الذي هز جدرانها العام 2005 ليخلف وراءه أكثر من 1500 قتيل.

وفيما كانت مرشدتنا السياحية/ سائقة الباص/ بائعة الأراضي تقلنا بالباص - الفاقد للمرونة - في أرجاء القرى المنكوبة، كان الأميركيون يتفنون في كيل الشتائم على إدارة الرئيس بوش وتجاهلها لاحتياجات السكان منذ ذلك الحين وحتى اليوم، وإذا كنت تتوقع من ذلك، أن تكون المدينة ديمقراطية التوجه سياسيا فأنت مخطئ، فغالبية الفقراء هنا في نيو أورلينز غادروها، وبقت الطبقة المترفة وهم في الغالب جمهوريون، وهو ما قد يتسبب في أن تكون نتائج هذه الولاية لمصلحة الجمهوريين في الانتخابات الرئاسية القادمة، وهو ما كان يثير غضب مرشدتنا تحديدا.

الأميركيون يسمون هذه المدينة بـ «مدينة الخطيئة»، ويعتقد الكثير من الأميركيين أن ما أصابها هو انتقام الرب الذي يبدو غير راضٍ عما تشهده شوارع الركن الفرنسي فيها تحديدا. وعلى رغم أن تحذيرات مشرف الرحلة عبدالحليم من ذهاب أي أحد منا للركن الفرنسي بمفرده كانت كافية لبث الذعر فينا، فإن تعليمات الفندق بضرورة توخي الحيطة والحذر وعدم حمل المبالغ النقدية سببا كافيا في جعلنا مذعورين على الأقل، وفي تخويف الفتاة الوحيدة في الوفد، الصحافية المغربية أمينة كوندي على الأكثر، إذ غالبا ما كانت تطلب منا مرافقتها في جولاتها التجارية المطولة.

خمسون دولارا... وتوكل

خمسون دولارا أبقيتها في محفظتي ومضيت نحو الركن الفرنسي، الاستقبال كان حافلا، الأفارقة الأميركيون يصطفون على جانب الشارع في عزف حي لموسيقى «الجاز» التي تمثل هذه المدينة مهدها وموطنها الأصلي، يصطف السياح بجانب العرض ولا أحد منهم يبادر بالدخول للشارع وهو ما يجعلك تزداد قلقا، العزيمة تشتد بقدر ما يزداد التوجس، دخلت وما دخلت إلا بحفظ طريق العودة بآلاف الإشارات وكنت مستعدا جدا للتضحية بالخمسين دولارا مع أول محادثة مريبة. كان الوصول إلى منتصف الطريق إنجازا يفي لسرد البطولات الوهمية على الزميلين خالد أبوكريم ومحمد الملفي اللذين ماطلا في القبول بدخول ما اعتقدنا أنه مغامرة، لينتهي عند حدود شارع للمطاعم والبارات ومراقص العري الليلية. ولا شيء أكثر من ذلك. حينها فقط كنت أحدث نفسي عن ذلك المقدار الذي يحتاج إليه الأميركيون من «التدين» حتى يصفوا هذا المدينة الجميلة على نكبتها بمدينة «الخطيئة»، فعلى رغم عديد الدلائل والقرائن السياسية والثقافية والكتاب المقدس الذي تحرص الفنادق على وضعه في مكان بارز داخل جميع الغرف، يصر الأميركيون على أنهم بريئون من «الدين» وأن الكنائس لا تحسم خياراتهم.

نشوة انتصاري بإلصاق الدين بالأميركيين لم تدم طويلا، فالحياة المنتعشة في المدينة تكللتها الاحتفالات الصاخبة بعيد الثلثاء المرفع، وهو مناسبة احتفالية تمتد لثلاثة أيام في هذه المدينة. الاحتفال بسيط، وعلى رغم زخات المطر القوية فإن الجميع كانوا مصرين على المضي قدما فيه. مراسم الاحتفال بدأت عصرا مع قدوم العربات المزينة والمحتفلون أعلاها الذين كانوا يرمون القلائد البلاستيكية بسخاء. مهمتنا في الاحتفال كانت محصورة في التصوير وجمع هذه القلائد وارتدائها، عقب ذلك انسحبت غالبية أعضاء الوفد من مراسيم الاحتفال، إذ تنص الأعراف والتقاليد هنا، على إهداء القلادات المجموعة إلى أية فتاة في الشارع لتكشف هي بدورها عن صدرها إكراما للقلادة، طبعا كان ثمة من يمانع من الفتيات ذلك، إلا أن الغالبية كانت ترضخ مع زيادة القلادات وكبرها. ولأسباب لا أحتاج إلى تفصيلها، كان للبعض أن يرى من توصيف مدينة «الخطيئة» توصيفا دقيقا وفي محله. هنا تحديدا كانت مقولة دي توكفيل «أما أميركا الشمالية فيختلف مظهرها عن ذلك كل الاختلاف، فكل شيء فيها رزين متزن، كأنما خلقت لتكون مقر ذوي العقول، على حين خلق الجنوب مرتعا للراغبين في اللذات الحسية» تحت اختبار صعب لا يبدو أنها تستطيع العبور منه.

نهر بصفة المحيط العاصف

يطلق أهالي هذه المدينة التي أسست في العام 1718 من قبل سيور دو بيانفيل وتقع على ضفاف نهر المسيسبي، الكثير من القصص والروايات عن تآمر الحكومة الأميركية ضدهم إبان أزمة «كاترينا»، ويؤكدون، أن كبار المستثمرين وأصحاب الشركات العقارية دخلوا نيو أورلينز عقب نكبتها ليبتزوا الأراضي والمساكن من أصحابها، الكثيرون غادروا، ولايزال البعض يسكن البيوتات المتنقلة ومنهم مرشدتنا التي كانت للتو استطاعت الانتهاء من بناء منزلها المدمر. الأهالي هنا، لا يعتقدون بتساوي الأميركيين، فثمة أثرياء أتوا إلى هذه المدينة وأقاموا مأدبة لتوزيع الأرباح على شرف الغرقى والجائعين. هنا، تبدو الأجواء مثيرة للكيل في أميركا، لحظات فقط من التأمل حتى تظهر لنا أعلى جسر المدينة الرئيسي قافلة من الدبابات، تبدو مرشدتنا متأهبة لإخبارنا بأنها دبابات جديدة سترسل إلى العراق، وهذه العبارات تبدو مثيرة لطرح المزيد من الأسئلة التي لم تجد إجابة. فكل ما تعرفه مرشدتنا هو أن ميناء المدينة نشط ودائم الحركة.

تشترط الحكومة المحلية اليوم على السكان مواصفات محددة في البناء والترميم، منها رفع مستوى القواعد لثلاثة أقدام، إذ يعتقد الجميع هنا أن «كاترينا» الذي سبقته أعاصير أخرى لن يكون الأخير، وتعززت هذه المعلومات لدي على الأقل حين تكرمت علينا مرشدتنا السياحية بالوقوف قليلا أمام الحاجز الإسمنتي الذي اخترقه منسوب الماء، حينها فقط تستطيع أن تتوقع الكثير من وراء هذا النهر الذي لا يبدو أكثر شراسة وعنفا.

كانت نيو أورلينز منذ نشأتها عاصمة للمستعمرة الفرنسية، ولذلك، لا تبدو هذه المدينة أميركية الطراز والتصميم والمعمار. ولاتزال اللغة الفرنسية حاضرة في المدينة. في العام 1762 انتقلت المدينة من الحكم الفرنسي إلى الحكم الإسباني إلا أنها بقت فرنسية الطابع والسكان واللغة. وما لبثت أن عادت إلى الحكم الفرنسي العام 1803 وهو العام الذي قامت الولايات المتحدة بشرائها فيه مقابل خمسين مليون دولار كجزء من صفقة «لويزيانا» الشهيرة، ويسكنها اليوم قرابة 1.3 مليون نسمة.

تنتشر الجريمة في نيو أولينز خلاف ما يبشر دي توكفيل، وهو ما يكفي لنفي وتقويض ذلك الطابع الملائكي لكتابته عن أميركا والأميركيين، ولعل السبب في ذلك، هو أن هذه المدينة كاثوليكية في غالبيتها، وهو ما لا يتفق مع أطروحات دي توكفيل التي تصر في أكثر من مقام ومقال على النهضة البروتستانية وتلازمها وخيار الديمقراطية الأميركية.

دلالات «الجاز»

في منتصف القرن التاسع عشر، قُدر لهذه المدينة أن تجمع خليطا من المهاجرين الأسبان والإنجليز والفرنسيين ليكونوا معا طبقة الأسياد التي تمتلك من العبيد الكثير الكثير، استمرت هذه الحال حتى إلغاء نظام الرق والعبودية العام 1863 ونهاية الحرب الأهلية الأميركية العام 1865، وهنا، وجد الزنوج الأميركيون أنفسهم أحرارا في مدينتهم التي أحبوها، وسيكون عليهم أن يحبوها أكثر إذ وهبتهم الحرية. وفي شارعنا «رامبارت» تحديدا كانت الفرق الموسيقية منتشرة على اختلاف مدارسها وطرقها، برع الزنوج في ترديد أهازيجهم وفي صناعة الطبول الضخمة التي تسمى «تام تام» أو «بامبولاس» التي امتزجت مع الأناشيد المسيحية في الكنيستين الكاثوليكية والبروتستانية لتخرج للعالم موسيقى «الجاز»، التي استطاع الأميركيون الأفارقة أن يعطوها نكهتها الخاصة التي صيرتها اليوم إحدى أهم وأكثر أنواع الموسيقى رواجا في العالم.

لايزال سكان نيو أولينز مؤمنين بالديمقراطية الأميركية ووجوب احترام القانون، وهي ثيمة أعطاها دي توكفيل جل اهتمامه، لكن الذي تستطيع أن تفهمه وأن تحس به من موسيقى «الجاز» الحزينة في شوارع هذه المدينة، هو أن سكانها فقدوا أو يكادوا أن يفقدوا إيمانهم بـ «العدالة» الأميركية. يريد هؤلاء السكان أن يستعيدوا سعادتهم التي نسوها حين طغى الماء، يريدون أيضا أن ينسوا الكثير من الحكايا والشائعات التي أصبحت بمثابة المسلمات في أذهانهم، هل منعت القوات الأميركية في العام 2005 وصول الماء إليهم، وهل كانت المساعدات العاجلة التي وصلتهم جراء خوف الإدارة الأميركية مما بثته وسائل الإعلام من فضائح وأوضاع مأسوية؟! قد يفعلون ذلك، فالأميركيون كائنات مبنية على «الحلم»، والإقبال على الحياة. يدرك سكان نيو أورلينز أن الله يحب الأرض، كل الأرض، وأن تسمية «أرض الخطيئة» مجرد مزحة، فالأميركيون يميلون إلى الطرفة حتى حين تكون بعض الطرفات موجعة.

العدد 2001 - الأربعاء 27 فبراير 2008م الموافق 19 صفر 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً