هل تتحول معركة اختيار المرشح المفضل للرئاسة الأميركية إلى مشكلة داخلية تعيد فتح ملف الأقليات الملونة في الولايات المتحدة؟
الحملة التي بدأت المنافسة الديمقراطية هيلاري كلينتون إثارتها في الإعلام ضد باراك أوباما أخذت تنحرف نحو «العنصرية». التقارير التي اشارت إلى بدء تركيز الحملة على الأصل الكيني الافريقي وديانة أوباما (المسلم) بقصد التشهير الانتخابي والتشكيك بهويته الأميركية تعطي فكرة عن مدى ترسخ موضوع التمييز في ذهنية الجمهور والوعي الجمعي على رغم أن القانون يمنع إثارة هذه الجوانب الغريزية.
المعركة لا تزال في بدايتها ولكن كلما تقدمت اشواطا واقترب موعد الاختيار ستصبح مسألة اللون نقطة مهمة. وإذا أضيف موضوع الدين سيتضاعف الافتراق وستظهر من وراء ستار الديمقراطية الأميركية سحب دخان تعيد فتح ملفات الماضي والذكريات الحزينة والحوادث المؤلمة التي مر بها السود ومختلف الاقليات الملونة غير الأوروبية في تاريخ الولايات المتحدة.
حتى الآن ظهر رأس الجليد ويرجح أن تتضاعف حدة المعركة وتأخذ طابع الألوان والديانات في حال نجح اوباما في مواصلة تقدمه على كلينتون. وبانتظار جولة تكساس وأوهايو التي ستعقد في 4 مارس/ آذار المقبل يمكن توقع ظهور نتوءات عنصرية على شاشة التنافس. وإذا صحت الاستطلاعات التي رجحت فوز اوباما بولاية تكساس وفوز كلينتون بولاية اوهايو فإن التعادل النسبي سيضع الحزب الديمقراطي في موقع صعب لأن اختيار المترشح للرئاسة سيدخل في حسابات دقيقة لن تكون بعيدة عن القراءات «العنصرية». فالاستطلاعات تقول إن 51 إلى 54 في المئة من انصار الحزب الديمقراطي يفضلون اوباما على كلينتون. كذلك أشارت استطلاعات تايمز/ سي. بي. اس. نيوز التي نشرت أمس الأول إلى أن اوباما هو المرشح الأقوى للفوز بالرئاسة في حال اختاره الحزب الديمقراطي ضد المرشح الجمهوري المنافس جون ماكين.
الاستطلاعات تشير إلى غلبة كفة اوباما على صعيد اختيار الحزب لمرشحه كذلك تؤكد احتمال فوزه على ماكين بنسبة لا تقل عن 4 في المئة. ومثل هذه الاستطلاعات ستترك أثرها النفسي البالغ على الجمهور الانتخابي ومزاجه ما سيؤدي لاحقا إلى تأسيس نوع من الاستقطابات في شارع تعود على ثقافة نمطية معينة في التعامل مع الرجل الأول في البيت الأبيض وتلك الطبقة البيضاء (الاوروبية) التي تهيمن عادة على الوظائف العليا في الدولة.
هذا الانقلاب النفسي يتوقع أن يشعل شرارات عنصرية في مجتمع خاص ودولة خاصة وتاريخ دموي. فهذه الدولة تأسست اصلا ضمن رؤية ايديولوجية وقامت افكارها الديمقراطية (الدستورية) على مجموعة نقاط تعتبر واحدة من انجازات الكتلة الأوروبية البيضاء (البروتستانتية الانغلوساكسونية). والتعديل في هذه الصيغة المتوارثة يتطلب هزة ثقافية تكسر تلك النمطية في العلاقات الداخلية والتعامل مع الآخر المختلف في الدين واللون.
الأقليات وأميركا
التاريخ الأميركي في التعامل مع الاقليات الملونة وسكان البلاد الأصليين ليس مشرفا. والشواهد على سلبيات تلك العلاقات كثيرة وموجودة في كل المحطات منذ التأسيس إلى تسعينات القرن الماضي. فالدولة تأسست في القرن السادس عشر على مجازر ضد الهنود الحمر (سكان القارة الأصليين) وانتهت المذابح بين 1521 و1700 بالسيطرة الأوروبية البيضاء على السواحل الشرقية من أميركا. بعد ذلك استؤنفت المجازر ضد الهنود الحمر بين 1701 و1800 بهدف السيطرة على طول الساحل الأطلسي وفي الشمال والوسط الشرقي. ثم عادت الدولة (المركزية) بالتوسع إلى الجنوب فاستولت على ولايتي لويزيانا وفلوريدا، ووصلت قوة الدولة المركزية إلى حدها الأقصى في الداخل حين بسطت نفوذها بين 1846 و1890 على تكساس وأوريغون وكاليفورنيا (ساحل المحيط الباسيفيكي) في الغرب.
بدأت أميركا في الشرق بـ 13 ولاية ضمت 3 ملايين نسمة وانتهت بـ 50 ولاية تضم الآن نحو 300 مليون نسمة واطلقت على الأراضي المسلوبة مسميات مختلفة انطلاقا من نزعة ايديولوجية أوروبية تؤمن بالتفوق على الاجناس والاعراق الأخرى. فالدولة الجديدة لم توفر أحدا. فهي طردت الاسبان في 1822، وأقدمت على تصفية الهنود في معركة كبرى جرت في الاباما والمسيسبي في العام 1830. أما الأفارقة (السود) فكان نصيبهم من الاضطهاد والاحتقار والتمييز والنبذ والطرد الأكبر قياسا بغيرهم من الألوان. مثلاُ باعت ولاية فرجينيا الشمالية الشرقية (اشتهرت بزراعة التبغ) أكثر من 300 ألف افريقي بين 1830 و1860. وبلغ في العام 1860 عدد تجار البشر من البيض أكثر من 385 ألفا. وكان هناك 46200 صاحب أرض (ابيض) يملك كل واحد منهم أكثر من 20 إفريقيا. وتضخمت الكتلة الافريقية في الولايات الجنوبية في العام 1800 إلى نسبة 20 في المئة، ثم قفز عدد الافارقة في تلك الولايات إلى نحو 50 في المئة، (أربعة ملايين من ثمانية) في العام 1860. وتشكل سكان الولايات الأميركية في العام 1860 كالآتي:
27 مليون أبيض (احرار)، و4 ملايين أسود (عبيد) و488 ألف أسود (احرار).
هذا التطور في نمو «القوة السوداء» أخاف رجال الدولة وأدرك السياسيون أن استمرار تجارة الرقيق ستؤدي مع الأيام إلى تغيير لون المجتمع وتحول البيض إلى أقلية. وبسبب الهاجس المذكور ظهرت بوادر كتابات تطالب بوقف تجارة البشر وتحرير «العبيد». وقاد معركة تحرير السود بداية في العام 1831 الصحافي لويد غاريسون الذي كتب مقالات في صحيفة «المحرر» التي كانت تصدر في بوسطن. تحولت الحركة السياسية الصحافية إلى موضوع نقاش دستوري دفع أخيرا بالرئيس ابراهام لينكولن إلى إلغاء تجارة الرقيق في العام 1863 بقصد كسب القوة السوداء إلى جيشه الفيديرالي لمواجهة قوات الانفصال الكونفيدرالية. ونجح قانونه في تشجيع 200 ألف افريقي (اسود) للانضمام إلى قوات الدولة ومحاربة الولايات الجنوبية (الانفصالية العنصرية).
أوقفت تجارة البشر (الرقيق) رسميا في العام 1870 ولكن التمييز اللوني في الاشغال والوظائف استمر إلى العام 1959 حين بادر ريتشارد نيكسون (كان يشغل آنذاك منصب نائب الرئيس دوايت ايزنهاور) بإطلاق أولى خطوات المساواة. وبعده اصدر الرئيس جون كيندي أمرا فيدراليا في العام 1961، رفع بموجبه درجة المساواة في الحقوق المدنية. وفي عهد الرئيس ليندون جونسون اتخذت خطوات حاسمة في الحقوق المدنية لمصلحة السود بسبب حاجته إليهم للانضمام إلى القوات الأميركية التي كانت آنذاك متورطة في حرب فيتنام. ثم جاء نيكسون إلى رئاسة الدولة فأصدر مجموعة تشريعات قررت المساواة في الوظائف والأجور.
كل هذه الخطوات الدستورية من 1863 إلى 1973 لم تنفذ ميدانيا. ولا تزال الفوارق في الأجور موجودة حتى الآن، كذلك لا تزال الوظائف العليا في المؤسسات والشركات الكبرى محصورة بنسبة 80 في المئة بدائرة الفئات البيضاء، بذريعة أن الافارقة أقل نشاطا من الأوروبيين.
مسألة اوباما وطموحه لخوض معركة الرئاسة لن تمر من دون نقاشات ومنازعات تعيد التذكير بذاك التراث العنصري المسكوت عنه في التاريخ الأميركي. مثلا بين العامين 1876 و1930 شجعت الإدارات الأميركية الشعوب الأوروبية الهجرة إلى الولايات المتحدة لتعديل التوازن الديموغرافي مع الملونين. واستمرت التوازنات تصعد وتهبط إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية. ومنذ العام 1945 ارتفعت جموع النازحين من أميركا اللاتينية والمكسيك وآسيا في الخمسينات والستينات والثمانينات في وقت واصلت نسبة البيض الاوروبيين تراجعها بين 1955 و1964 إلى أن بلغت 50 في المئة. وفي بعض الولايات الجنوبية زادت نسبة الملونين على الاوروبيين. هذا الأمر دفع دائرة الهجرة إلى سن قانون جديد في العام 1991 للحد من ارتفاع نسبة المهاجرين من آسيا وافريقيا والمكسيك وأميركا اللاتينية قياسا بالوافدين من اوروبا.
المسألة إذا صعبة وخطيرة. والمعركة التي بدأت كلينتون بإثارتها انطلاقا من الدين واللون ستفتح في الداخل تلك الجروح التي يرجح أن تنزف مجددا كلما ازدادت حظوظ اوباما بالفوز. فالترشح إلى منصب الرئاسة ليست خطوة بسيطة ولن تحصل بهدوء إذا كان المترشح ملوّنا. فهناك وراء الستار مجموعة فصول لم تصل بعد إلى النهاية. فالفصل الأخير بدأ ولكن كيف سينتهي... هذا هو السؤال؟
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2000 - الثلثاء 26 فبراير 2008م الموافق 18 صفر 1429هـ