العدد 1999 - الإثنين 25 فبراير 2008م الموافق 17 صفر 1429هـ

لبنان والبوابات الثلاث

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

ثلاث بوابات مفتوحة على لبنان تقتضي المعالجة انطلاقا من إعادة ترميم العلاقات الأهلية التي تدهورت سلبا بعد توقف العدوان الأميركي - الإسرائيلي على بلاد الأرز في صيف 2006.

الأولى بوابة فلسطين. فهذه تعتبر نقطة ضعف في بنيان الدولة وشكلت ذاك المسار الذي أدى مرارا إلى اهتزاز الأمن وتعطيل الاستقرار منذ النكبة في العام 1948 إلى صدور القرار الدولي 1701.

الثانية بوابة دمشق. وهذه تعتبر قناة مرور لتوتر العلاقات بين دولتين عربيتين أدت مرارا إلى ترسيم اشكالات ناتجة من اختلاف النظامين ورؤية كل جانب للآخر.

الثالثة بوابة البحر. وهذه القناة التي تأسست تقليديا على ثقافة هجينة تجمع بين الغرب والعرب في محاولة لربط أوروبا بالداخل العربي من طريق المرفأ والمطار أو من خلال تشكيل قاعدة عبور للفكر والبضاعة.

هذه البوابات الثلاث أحاطت الكيان السياسي اللبناني منذ تأسيسه في العام 1920 وساهمت في التأثير على نموه وتوازناته ومصادر ثروته وتنوع سلطته.

فلسطين قبل النكبة كانت تشكل لأهالي الجنوب ذاك المدى الحيوي للتجارة والزراعة والصناعات المنزلية البسيطة. وتأسست من خلال تلك البوابة علاقات أسرية بين قرى جبل عامل وشمال فلسطين إلى أن اقفلت بعد النكبة وتشريد الناس وطردهم إلى لبنان. إقفال بوابة فلسطين عزل الجنوب عن محيطه الطبيعي وأنزل بسكانه كارثة اقتصادية ساهمت في تهجير أهالي القرى إلى بيروت أو افريقيا الغربية بحثا عن مصادر الرزق.

إلا أن المشكلة تفاقمت لاحقا حين بدأت دولة الاحتلال تدير مدافعها إلى قرى الجنوب؛ مما وضع لبنان أمام خيارات صعبة تتعارض مع وظيفة النظام السياسي ودوره. وازدادت المشكلة حين أصبح لبنان في موقع يفرض عليه الاختيار بين البحر ودمشق.

اختار النظام اللبناني آنذاك منطقة وسطى تجمع بين تجارة البحر وطريق الشام الذي يشرف على خط المواصلات والنقل بين اوروبا والداخل العربي. وساهمت الظروف الدولية والاقليمية في الخمسينات والستينات في تعزيز دور لبنان الخدماتي (تجارة، سياحة، مصارف، جامعات) وتحويله إلى نموذج خاص يلعب في سياق مستقل خارج نطاق التجاذبات العربية. واستمر هذا الدور ينشط من دون كلفة سياسية لا يستطيع دفعها نظرا لخصوصية تركيبته الطائفية - المذهبية التي تمنعه من الانخراط في مجالات الصراع العربي - الإسرائيلي.

دور «الحياد الايجابي» استنفد أغراضه حين اندلعت حرب يونيو/ حزيران 1967 ودخلت المقاومة الفلسطينية في معادلة الصراع وخارج حسابات الأنظمة. فالمقاومة شكلت هيئة مستقلة تلعب وظيفتها بعيدا عن دائرة النظام العربي. وهذا ما أعطى المقاومة تلك القدرة على اجتذاب تعاطف القوى اللبنانية ودعمها لها.

عودة الدور الفلسطيني إلى لبنان جاء في إطار معاكس لتطور الصراع العربي - الإسرائيلي.

ففي الوقت الذي كانت المقاومة تضغط لبنانيا لفتح تلك البوابة الفلسطينية التي اغلقت في العام 1948 كانت الجبهات العربية قد توصلت بعد حرب اكتوبر/ تشرين الأول 1973 إلى سلسلة تفاهمات أخذت تغلق الحدود وتعطل امكانات حصول عمليات عسكرية في الداخل الفلسطيني - العربي المحتل.

هذا التعاكس في المسار التاريخي أدى إلى تحويل لبنان إلى ساحة مفتوحة للصراع العربي - الإسرائيلي بينما كانت الساحات الأخرى تتجه نحو الانغلاق. ومنذ العام 1975 الذي افتتحت به الحروب الأهلية - الاقليمية الدائمة تشكلت في لبنان مراكز قوى لا تتجانس مع تلك القواعد التي تأسس عليها الكيان. فنظام الخدمات لا يمكن له أن يستمر في ظل حرب مفتوحة ومكشوفة على احتمالات. واقتصاد السياحة والتجارة الحرة والمصارف والجامعات لا يستطيع أن يصمد تحت ضربات ثقيلة تحتاج إلى نمط آخر من المؤسسات والإدارات. وبسبب هذا التعارض بين متطلبات الحرب وعلاقات إنتاج تعتمد البحر الأبيض المتوسط بصفته تلك القناة البحرية التي تربط الغرب بالداخل العربي أقفلت بوابة البحر ولم يعد أمام لبنان غير دمشق.

طريق الشام

شكلت بوابة دمشق المنفذ الوحيد وربما الملاذ الأخير لكيان سياسي محكوم بالجغرافيا وما تفرضه من شروط تمنع على النظام حرية الاختيار. وبما أن الدولة في لبنان ضعيفة في تكوينها كان عليها الاعتماد على طريق الشام بعد أن أقفلت بوابة فلسطين في العام 1948 ثم بوابة البحر بعد العام 1975. وأدى هذا الاعتماد المحكوم بالجغرافيا والمشروط بالسياسة إلى تغطية الدور السوري وموقعه حتى بعد توقيع «اتفاق الطائف» والبدء بإعادة تشكيل هيئة الدولة من جديد.

كان من الطبيعي ان تختلف هيئة الدولة عن تلك التي تشكلت في السابق. الظروف اختلفت. التوازن السكاني تبدل. مراكز القوى تنوعت. وقواعد اللعبة اخذت تسلك قنوات غير منسجمة مع معادلات عربية استقرت اقليميا في تسعينات القرن الماضي. ولكل هذه الاعتبارات كان من الصعب عربيا تجاهل بوابة دمشق ودورها في لعبة التوازن اللبناني والاستقرار الأهلي. وشكل هذا الانتباه للموقع السوري نقطة مفصلية في مرحلة إعادة تأسيس دولة ما بعد الطائف. فالدول العربية ادركت أن هناك صعوبة في عودة لبنان إذا لم تلاحظ الهواجس السورية الأمنية والاقتصادية.

الانتباه العربي إلى الهواجس السورية ساعد على استقرار لبنان السياسي إلى أن انهارت المعادلة في العام 2004 بتعديل الدستور وتجديد رئاسة اميل لحود وصدور القرار الدولي 1559. ومنذ تلك اللحظة بدأت بوابة دمشق الانغلاق مجددا وخصوصا بعد جريمة اغتيال رفيق الحريري وخروج الجيش السوري من لبنان.

الساحة الآن مفتوحة ومكشوفة ولكنها ايضا مقفلة على كل الاتجاهات تقريبا. فالبوابة الفلسطينية مراقبة ومضبوطة دوليا ولكنها مهددة بالانفتاح عسكريا في لحظة غير مسيطر عليها. وبوابة البحر الأبيض المتوسط تغيرت طبيعتها باعتبار أن المرافئ العربية لم تعد تحتاج إلى محطة بيروت للاستيراد والتصدير. وبوابة دمشق معرضة للاقفال في مختلف المراحل والأسباب تتجاوز الاقتصاد وخطوط المرور أو الإمداد أو النقل.

لبنان الآن من دون بوابات. فلسطين مقفلة إلى زمن طويل. والبحر معطلة وظائفه وخدماته. ودمشق على قاب قوسين من الاقفال. والباب الوحيد للخروج من هذه الأزمة الجيوسياسية هو التوافق على العودة إلى الدولة. فهل يفتح مجلس النواب ابوابه وينتخب الرئيس في 11 مارس/ آذار المقبل؟

الأمور وصلت إلى حدها الأقصى والمنطق السياسي يشير إلى أهمية هذا الاحتمال. ولكن... تبدو الطرقات حتى الآن غير سالكة. فالكل يريد الرئيس والكل يشترط مواصفات معينة لانتخابه. والمواصفات في بلد متنوع طائفيا ومذهبيا مسألة صعبة باعتبار أن الشخص المطلوب لا يمكن أن تتوحد على هيئته كل الأطياف.

انغلاق ابواب المجلس تضغط على لبنان للانفتاح طوعا على جبهات ممتدة داخليا وجواريا وإقليميا. وهذا الأمر سيدفع العلاقات الأهلية إلى منحدر قد يورط القوى السياسية في مواجهات على أكثر من صعيد. المواجهات الكبيرة لم تقع حتى الآن لاسباب كثيرة ولكن حصلت مواجهات صغيرة ومتفرقة شكلت عينة اعطت فكرة مختصرة عن كارثة تنتظر البلد الصغير في حال تواصل التراشق بالقذائف الدخانية. والتراشق الذي يبدأ بالالعاب النارية يمكن أن ينزلق إلى الخنادق ويتحول إلى تبادل القذائف بالذخيرة الحية. حتى اللحظة يمكن تسجيل نقطة لمصلحة القوى اللبنانية التي فشلت في مختلف الحقول التسووية ونجحت في منع انجرار الفرقاء إلى فشل نهائي. وهذه النقطة تعتبر من غرائب أزمة لا حل لها ولكنها أزمة قابلة للتمديد وليس التفجير.

تمديد الأزمة لمنع تفجيرها يعني أن التوصل إلى حل نهائي مسألة مؤجلة. وهذا الأمر الذي تراهن عليه القوى اللبنانية يحمل في تضاعيفه السياسية مخاطرَ أمنية قد لا تدوم إلى خط أفقي لا نهاية له وخصوصا أن خيارات بلاد الأرز محدودة وهي في النهاية محكومة بثلاث بوابات: البحر، دمشق، وفلسطين.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1999 - الإثنين 25 فبراير 2008م الموافق 17 صفر 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً