أعلن المتحدث باسم مجلس صيانة الدستور بالجمهورية الإسلامية عباس علي كدخدائي السبت ما قبل الماضي التصديق على أهلية 300 مرشح آخر لخوض الدورة الثامنة للانتخابات البرلمانية التي ستُجرى في الرابع عشر من شهر مارس/ آذار المقبل.
وإذا ما أضيف هذا العدد الجديد إلى الأرقام التي أعلن عنها المجلس سابقا وهي 280 مرشحا للانتخابات التشريعية فإن الأعداد المتوالية ستصبح 580 شخصا قد أعيد النظر في أهليتهم بعد رفضها، وربما يُواصل مجلس صيانة الدستور في الأسابيع الثلاثة المتبقية إعادة النظر في ملفات المرشحين الذين رفضت أهليتهم في السابق. بطبيعة الحال فإن هذه التطورات تأتي في أعقاب الجدل الواسع الذي أثير حول رفض أعداد كبيرة من المترشحين للانتخابات التشريعية، وعدد من قيادات النظام السياسي على خطّها بينهم الشيخ هاشمي رفسنجاني والشيخ مهدي كروبي. وقد يكون الملفت هنا أن أزمة الأهلية الثانية قد تمايزت في إرهاصاتها عن الأزمة الأولى في أن أزمة العام 2004 كان يُجَلِّيها حِدّيّة البرزخ القائم آنذاك ما بين تنظيمات جبهة الثاني من خرداد وبين السائرين على خط الإمام والقائد، أما في أزمة العام 2008 فقد وَهَبَ الرئيس أحمدي نجاد من حيث لا يحتسب فرصة المناورة والاصطفاف للتنظيمات الخُردادية وتقريب أنويتها من مثيلاتها لدى قوى اليمين المحافظ التقليدي، بسبب خلاف الرئيس وتياره الموسوم باليمينية المتمردة على قوى اليمين التقليدي، لذا فليس غريبا أن يُنعت السياسيون المتشددون في زمن الخاتمية على أنهم معتدلون اليوم عندما يُفاضَلُون مع المنهج النجادي. وربما تضيع البوصلة لتصريحات المرشد الأعلى الداعي إلى برلمان قوي يتناسب وحجم التحديات، وتصريحات القائد العام للحرس الثوري الداعية لترشيح المبدئيين المنافحين عن حياض الثورة، وأيضا شواغل اليمين المحافظ بشتى أطيافه للمرحلة المقبلة وطبيعة تحالفاته، وربما تُنسي اليمينيين التقليديين مشاكلهم المُرَحّلَة ركوب بعض متطرفي قوى الثاني من خرداد الموجة المحافظة في جنبتها التقليدية لتصبح الهزيمة بالنسبة إلى مسطرة اليمين هزيمتين، والنصر بالنسبة إلى متطرفي الخرداديين نَصريْن، وفي ذلك قد تتحول الخسارة إلى خسارة وطنية جامعة في ظل الأوضاع الإقليمية والدولية المعقّدة المحيطة بالجمهورية الإسلامية.
الجبهات العَشْر
مثلما نالت إيران مكانة جيو/ سياسية متميّزة من خلال موقعها الاستراتيجي فإنها دفعت ضريبته أيضا، فحدودها مع باكستان وأفغانستان وتركمانستان وبحر قزوين وأرمينيا وأذربيجان وتركيا والعراق والخليج وبحر العرب هي في أغلبها حدود لدول مهترئة، وهو ما يعني رخاوة الأمن المجاور وسهولة الالتواء عليه وتجييره، على رغم أنهم (أي الإيرانيين) قد شيّدوا لسياساتهم جدران صد وعزل للحدّ من تأثير مشكلات التهديدات الخارجية. ومن قُيّض له أن يُتابع السنوات التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفياتي سيلحظ أن الولايات المتحدة الأميركية لم تواجه مُشكلة في التعاطي مع الأنظمة المُمَانِعَة لها ولسياستها المرتكزة على سوح النظام العالمي الجديد، سواء بالعقوبات الاقتصادية كما أعملته مع كوريا الشمالية، أو بالأنشطة السريّة الاستخباراتية كما حصل مع إيران، أو بالحلول العسكرية المباشرة كالذي جرى مع يوغوسلافيا وأفغانستان والعراق. وباعتبار أن منطقة الشرق الأوسط هي الزاوية الحادة في تحريك الأحداث السياسية في العالم بالإضافة إلى احتوائها على مخزون استراتيجي من النفط والغاز؛ فإن المعادلة أصبحت تعتمد على مدى قُرب دول المُمَانعة تلك من منطقة المركز، وصيرورة ذلك معيارا أساسيا في تقييم منسوب النفوذ والقيمة الدولية، على اعتبار أن الواجهة الجغرافية للحدود والمصالح المتداخلة تُشكّل الممر الطبيعي للسياسات الخارجية ومدى تعاطيها المباشر وغير المباشر مع الملفات الساخنة سواء تلك المتعلقة بموازين القوى أو تسجيل حضور في قوس الأزمات المحتدمة، لذا فقد بقيت طهران بالنسبة إلى واشنطن الرقم الصعب بين تلك الدول، فهي قريبة من دولاب الصراع ولها أوراق نوعية ومفاتيح حل للكثير من العقد، وليست دولة مهترئة يكون الزمن كفيلا بتحجيمها وتصييرها عالة على نفسها كلما تقادمت الأزمات بفعل التعسّر المُزمن لدورة الإنتاج السياسي والاقتصادي والثقافي فيها، فهو نظام استَمْلأ في سياسته، وأكْثَرَ من استجلاب الشرعية لكيانه طيلة عقود عمره الثلاثة، وتحويل المصدر المأزوم إلى قيمة أخرى من قِيَم الدورة الطبيعية للدولة، واستطاعوا تحييد العسكرتاريا الأميركية عبر رهابها باحتلال مضيق هرمز، وتوظيف الحدائق الخلفية لها وأهمها شمال العراق عبر توتير المنطقة الكردية وبالتالي تمزيق الحزام النفطي الآمن الذي يمر منه النفط المتدفق من ثلاث دول الأمر الذي يعني ارتفاع أسعار النفط إلى أرقام جنونية، لذا فلا عجب أن تغرق الإدارة الأميركية في مفاضلة غير منتهية بين الخيار العسكري وبين غيره من الخيارات الأخرى.
ساسة برتقاليون
وأمام هذه السياسة الرمادية والمترددة للولايات المتحدة الأميركية فيما يتعلق بشن هجوم عسكري على إيران، تبقى الخيارات الأميركية تتأرجح بين إجراءات اقتصادية عقابية وبين تضمينها نشاطا استخباراتيا وتشكيل خلايا أزمة حكم حقيقية داخل أروقة النظام الإيراني قد تتحوّل إلى ثورة برتقالية بعد مدّها بالحركة الشعبية، كما حصل بالضبط في أوكرانيا وجورجيا، وخصوصا أن الولايات المتحدة قد كان لها بواكير مشروع مماثل بعد منتصف التسعينيات؛ عندما شجّعت الإصلاحيين المتطرفين من جبهة المشاركة ومجاهدي الثورة الإسلامية على لعب دور حسّاس ومباشر في الانقلاب على مؤسسات الدولة، وأهمها مركز المُرشدية الأعلى وضرورة مراجعة الدستور وإعادة النظر في العلاقة مع الولايات المتحدة الأميركية والنأي بإيران عن الصراع العربي الصهيوني. لقد كان الدعم الذي تلقّته هذه القوى واضحا وعلنيا في الفترة التي صعدت فيها قوى الثاني من خرداد، خلال الفترة 1997 - 2003، فكان تكريم عدد من الإصلاحيين في سفارة الولايات المتحدة ببولندا، والانحياز الإعلامي الواضح للإدارة الأميركية والقنوات الإذاعية والفضائية التي تبث من صحراء كاليفورنيا باللغة الفارسية كلها مظاهر لمشروع تدجين قوى في داخل النسيج السياسي الإيراني بغرض تمكين توجهات مُحددة في مسطرة الدولة الإيرانية قد تُغيّر من تعاطيها مع قضايا المنطقة والعالم. في الفترة التي كانت فيها اليد العليا للإصلاحيين من قوى الثاني من خرداد، دأب الأميركيون على تقوية تلك القوى في مواجهة القوى اليمينية المحافظة والمدماك الديني الداعم لها، وكان الخطأ الكبير الذي وقعت فيه قوى الثاني من خرداد هو أنها لم تُقدّر حجم النفوذ والقوة اللذين يتمتع بهما المحافظون، واكتفت بالاستقواء عبر رافعة صناديق الانتخابات التي حملتها إلى السلطة في خمس عمليات اقتراع، فجنحت براديكالية فاقعة في مواجهة الخصوم، كاشفة أوراق اللعبة السياسية إيمانا منها بقرب حسم المعركة في عموم الشرق الأوسط وليس إيران فقط، فدأب الإصلاحيون على تجيير مئات الصحف ضد القوى الدينية والمحافظة وضد مناطق مُحرّمة في العقل المحافظ، كما سعوا إلى تحريك الشارع الإيراني مُستغلين الفتوّة الكبيرة فيه فكانت مظاهرات العام 1999 في جامعة طهران من أهم التحركات التي قام بها الإصلاحيون في مواجهة الدولة ومراكز القوى في النظام، رافقتها دعوات صريحة من بعض تلك القوى تطلب العون من واشنطن، وقد تبيّن أن الميزانية التي أقرّها الكونغرس الأميركي في نهاية عقد التسعينيات والتي بلغت قيمتها عشرين مليون دولار بغرض القيام بأنشطة استخباراتية ضد إيران (هكذا أعلن) قد تمّ تفعليها وصرفها في توجيه تلك التحركـات. بالتأكيد لم تكن هذه الأعمال لتحدث من دون تنسيق وإعداد مُسبق، وربما كانت تهيئة حقيقية لثورة برتقالية ضد النظام الإسلامي في إيران تقودها قوى مُعترف بها قانونيا في وزارة الداخلية وفي العرف السياسي الإيراني. المحافظون وبعد تلك الأحداث ومؤشرات الاختراق اتبعوا منزلة بين منزلتين وهي عدم ترك الأمور كما كانت في أوكرانيا وجورجيا ودون الإجراءات التي قامت بها قيرغيزستان في مواجهة المظاهرات المطالبة باستقالة رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء، أو كما حصل في وادي فيرغانا بأوزبكستان، أو في أذربيجان بالدعوة إلى إلغاء نتائج الانتخابات التشريعية. وقد بدأت المجاميع النافذة في النظام بالتحرك للتعامل مع الأنوية الداعية أو المتماهية مع الدعوات ذاتها التي رفعت الألوية البرتقالية في دول القوقاز، وتعاملت بحسم مع الأميركيين من أصل إيراني منذ مطلع العام الماضي وبالتحديد مع احتدام قضية زهراء كاظمي، ومرورا بالشخصيات الأميركية التي توالت على زيارة إيران بهدف تنظيم فعاليات مدنية مشابهة كالتي كانت تقيمها المعاهد الديمقراطية الأميركية في الشرق الأوسط، فاعتقلت كيان تاجبخش من معهد جورج سوروس للمجتمع المفتوح، وهالة اسفندياري المشرفة على برنامج الشرق الأوسط في مركز وودرو ويسلون بواشنطن وبارناز أزيما من راديو فردا وغيرهم كثيرين.
الآن وفي ظل الجدل المحتدم ما بين مبدئيين وخُرداديين، وما بين مبدئيين ومبدئيين تضيع النسب، وتتمايل الولاءات، وتُخترق التحالفات، بل إن أخطر ما يوجه هذا الخلط غير المتجانس هو أن تُستحلب الاستراتيجيات لصالح التكتيكات الآنية، فتتبدّل زوايا النفوذ لصالح أطراف أصيلة في النّدّيّة بعضها ثَبَتَ بالدليل القاطع أنه يُمالئ أعداء أصيلين أيضا للوطنية الإيرانية وليس لأطراف سياسية دون أخرى في الداخل، وإذا ما ترك المحافظون شؤونهم تُساق إلى مزيد من التشظّي والتنافر ما بين يمين تقليدي ويمين تعميري، فإن ما سيسقط من أعلى أكتافهم سيتلقّفه الساسة البرتقاليون، وفي الجهة المقابلة إذا ما أغفل الخُرداديون (وخصوصا تيار الشيخ الكروبي) غربلة تنظيماتهم وفرزها ومَعْيَرَتِها بالشكل الصحيح فإن سياجات البلد سيصيبها الاختراق بلا شك، بل إن عليهم أن يكفّوا عن المتاجرة بعناوين باهتة عبر نعت المتطرفين من الثاني من خرداد بأنهم أصحاب سجل ناصع في الثورة، ففيليب بيتان استطاع أن يدفع الهجوم الألماني عن فيردان في معركة دامت عشرة أشهر وقمع التمرّد المنتشر فيه، لكنه أيضا مالأ النازيين في الحرب العالمية الثانية، وألغى الجمهورية لصالح الدولة الحليفة لهتلر، وبالتالي فإن اللعب بطهرانية الذمم لا يدرأ خطر الخارج ولا يقيم أمنا للدول.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 1998 - الأحد 24 فبراير 2008م الموافق 16 صفر 1429هـ