حين أقُفلت الحوارات والمداولات التي أفضت إلى عالم العنف الأسري في المؤتمر الذي عقده مركز معلومات المرأة والطفل بجمعية رعاية الطفولة والأمومة في 16-17 فبراير/شباط الجاري، تيقنت أنّ الفعاليات التي تعنى ببعض القضايا مثل ظاهرة العنف الأسري غالبا ما تنطلق من خندق المبارزة وإظهار التفوّق لهذه الجهة أو تلك في عملية تنفيذ الفعاليات والبرامج، أو من أهداف متعددة التنوع من بينها حاجة البحث عن مخارج جادة تنتشل المجتمع من معضلات هذه الظاهرة بما يحمله اتساعها وانتشارها في مجتمعاتنا من نذير بتدمير العلاقات الأسرية، أو لحاجة التأكيد إلى المنظمات الإقليمية والدولية بأنّ الدولة أو مؤسساتها الأهلية مازالت تقوم بمستوجباتها فيما يخص التزاماتها ببنود الاتفاقيات الدولية التي وقعتها أو لتجسيد الشعارات والبرامج التي تبنتها بنية مخلصة أو غيرها من الأسباب التي لن يعدم المرء في استحضارها وسردها.
إذا وباختصار شديد هناك حاجات وغايات وأهداف متعددة ومختلفة تقام على قواعدها المؤتمرات والمنتديات المعنية بهذه القضية أو تلك، وهي بالمناسبة ليست بعيدة عن ميدان السياسة ومخططاتها. وعليه لكلٍ مبرراته وغاياته وهي حتما مشروعة، هذا ما يتضح من الحملة المناهضة للعنف الأسري التي يجري تنفيذها هذه الأيام في المنطقة العربية وبكثافة لافتة تعيد إنتاج خطاب لم يتجاوز حدوده في أغلب الأحيان الإدانة اللفظية لظاهرة «العنف الأسري» في ظل مناسبات احتفالية، كما أثبتتها أيضا بوضوح الحوارات المثارة في المؤتمر والتي احتجنا بعدها إلى بلورة نظرة مغايرة وغير تقليدية في التعاطي مع واقع العنف الأسري.
المادة 16 تقبل ببعض من العنف الأسري
أوراق العمل التي ناقشها المؤتمرون عن العنف الأسري عرضت الإطار النظري له، فعرَّفت البنية الأساسية للعنف من خلال المفهوم والأنواع والأشكال التي يتخذها والتي بحسب الظن قد شاعت بين الوسط الثقافي والنخبوي في شكلها النصي والتعبيري حتى بدأت تلك المفاهيم بجمودها وكأنها مستنسخة من ذات المصادر والمراجع. تم الحديث عن التجربة الخليجية، تحديدا الواقع الكويتي الذي لا يبعد شكلا ولا مضمونا عن الواقع البحريني، فضلا عن التجربة العربية وصلتها بالتشريعات الدولية. في حقيقة الأمر، الحديث عن التجربة العربية جاء مبتورا وعاما من دون الخوض في التفاصيل والبحث في بعض التجارب المميّزة الممكن الإفادة منها محليا. أما البعد القانوني والتشريعي الذي عرضته المحامية زينات المنصوري كان أكثر تحديدا وركزَّ على خطورة تحميل الشريعة الإسلامية وزر استمرار العنف الأسري، فضلا عن سيادة قيم ومفاهيم تشرعنه وتبرر التأديب وممارسة الحق الشرعي له، مشيرة إلى أنّ نص (المادة 16) من قانون العقوبات البحريني يفتح الباب أمام قبول بعض أشكال العنف باعتباره جزءا من الأعراف المتفق عليها أو من الحقوق التي شرعها الدين للزوج على زوجته في التأديب إنْ هي خرجت عن طاعته أو حق الآباء في تأديب أبنائهنّ في ظل انعدام لقانون يعالج العنف الأسري وعقوبات رادعة تتضمن أوامر وإجراءات لحماية الضحايا. في الجانب الإعلامي أفادت هالة الأتاسي من سورية بأنّ الإعلام العربي مقصّر تجاه معالجة الظاهرة، وإنّ اهتمام مادته الإعلامية والبرامجية المعنية بالواقع ورصده لم تتشكل كمشروع أو خطة عمل أو حملة تعد من قبل الدولة إنما تخضع - أيّ المادة الإعلامية - لآراء المعدين وتتوجه إلى النخبة والناشطين في مجال مناهضة العنف الأسري. آخرين وجدوا أنّ الإعلام يشوّه واقعنا العربي ويزيّن العنف ولا يعكس الواقع إنما يشوّه صورة البيوت والعَلاقات الأسرية.
الثقافة السائدة تشرعن العنف
لو تأملنا مليّا في الحوارات المبعثرة التي دارت في المؤتمر هنا وهناك، حتما سيستوقفنا من بينها أمران مهمان، أشار إليهما المحاضر الأميركي جيرالد كوتشر، الأوّل، أنّ العنف الأسري انعكاس لثقافة المجتمع السائدة وهو موجود منذ العهد الروماني وحتى القرن الثامن عشر الميلادي، فبحسب الوثائق كانت النساء والأطفال يعاملون كممتلكات ويتعرضون للاعتدادات. ذلك ما يدعو باعتقادي إلى النبش في منظومة الأعراف والتقاليد السائدة في مجتمعنا البحريني وعلاقتها بالعنف الأسري، بالإضافة لما يأتي في سياقاتها عن الكيفية التي يتم التعامل فيها مع النساء والأطفال والعلاقة غير المتوازنة بين الرجل والمرأة بكل ما تحمله من مضامين تسودها المعاملة الدونية والتمييز والقهر والإذلال والتسلط والامتثال وقضايا لا تعد ولا تحصي من بينها محددات الحرام والحلال في قضايا الجنس واختلاط الجنسين وعمل المرأة ودورها في المجتمع بل وفي كلّ وجه من أوجه الحياة، مما يولد الكبت والانحلال والنواقص التي تقود إلى علاقات مهزوزة ومتوترة بين الجنسين وتفرز أحيانا حوادث خيانة واغتصاب وضرب وإهانات وكلّ ما يندرج في إطار العنف الأسري. فالثقافة في نظر علم الاجتماع هي ما تتضمنه جوانب حياتنا الإنسانية المكتسبة بالتعلم لا بالوراثة، وهي تتألف من المعتقدات والآراء والقيم التي تحدد المهم والمحبذ والمرغوب وتوجه الأفعال وقواعد السلوك الاجتماعي. ولعلنا ندرك بأنها - أي القيم والمعايير الثقافية - تتعرض للمتغيرات التي يفرضها الواقع مما يتسبب بحدوث تصادما، بين ما درج عليه المجتمع وبين ما يعد في الثقافات الأخرى جريمة لا تغتفر، كما هي قضية التأديب بالضرب وتوجيه الأهانات الذي يعده البعض من المسلمات في صلب ثقافتنا وأعرافنا، والأنكي منه هو استمرار المجادلة بشأنهما استنادا إلى النصوص الدينية وتفسيراتها وتأويلاتها المختلفة عن مستوياتهما، أهو ضربا وتأديبا بالساطور أم بالمسواك؟
ظاهرة العنف الأسري... أينَ الأرقام؟
أمّا الأمر الثاني، الذي أشار إليه كوتشر، هو أنّ حالات العنف الأسري في الولايات المتحدة الأميركية غالبا ما تتم في بيئة الأسر التي يعمل معيلها في الجيش أو الدفاع أو الشرطة. هنا، لعله من المفيد التذكير بأنّ هذا الجانب لم تتم مقاربته أو ملامسته لا من قريب ولا من بعيد أثناء المؤتمر، فهو على ما يبدو من التابوات المحرّم الخوض فيها لفرط حساسيتها ودقتها، وهي تجيز للمتابع والمراقب أنْ يوجه اللوم والعتب على الباحثين والمعنيين بتداول ظاهرة العنف الأسري محليا، والذين يتجاهلون عمْدا وقصدا، حذرا وإهمالا أو خجلا الإفصاح عن الإحصاءات المتعلقة بعدد الحالات وأنواعها ومدى تكرارها ومستويات العنف فيها وتأثيراته، بحجة المحافظة على السرية والكتمان والخصوصية. أكاد الجزم أنّ جميع المؤسسات المعنية بهذا الشأن تخفي ما لديها من أرقام وإحصاءات، سواء الرسمية منها أو الأهلية، وبذات المنطق والتبريرات.
لا ريب أنّ للجميع الحق، كلّ الحق في الالتزام الأدبي والمهني في المحافظة على سرية وكتمان المعلومات المتعلقة بالمتضررين، خصوصا عند التنبه إلى ما ذكرته فضيلة المحروس، عن سعي بعض الصحف المحلية لعرض حالات العنف بأسلوب الإثارة الذي لم يراع الخصوصيات مما تسبب في خسارة بعض القضايا المرفوعة في المحاكم كما خلف أضرارا نفسية ومعنوية لدى المتضررين وذويهم، وجعل الجهات المعنية تتحفظ في التصريح بأيّ تفاصيل. أكرر، أن لهذه الأسباب وجاهتها من النواحي القانونية والحقوقية والإنسانية، بيد أنه لا يمنع ألبتة من معرفة عدد حالات العنف وبيئتها بحسب ما سجل في هذا المركز الاجتماعي أو ذاك، نوعها، مدى تكرارها، إذ إنّ في ذلك مؤشرات دامغة تدلل على مستوى الظاهرة وخطورتها كما أنها تمثل قرائن مساعدة لتجاوز الأضرار والوقاية، ولاسيما أن بعض الاتجاهات غالبا ما تشكك في وجود العنف كظاهرة ما لم تنفذ مسوحات ودراسات تقدم من خلالها إحصاءات. في السياق، ثمة ما يستوجب القول إنّ الحالات التي سجلها مركز بتلكو لرعاية حالات العنف الأسري كما صرّحت بنّه بوزبون وهي (1465 حالة) ليست بالعدد القليل كما أشيع، إذا ما أدركنا عدد الحالات الأخرى المتضررة التي تستقبلها بقية مراكز الإرشاد الأسري الأهلية والرسمية في المحافظات الخمس، فضلا عن مخافر الشرطة والمستشفيات والمحاكم، فلو توافرت الشفافية التي تراعي في الوقت ذاته حقوق المتضرر وخصوصية حالته وسريتها، لتمكّن المجتمع من وضع اليد على الحجم الحقيقي للظاهرة وفداحتها من دون اللجوء إلى تكرار اللازمة التبريرية، هل يمثل العنف الأسري ظاهرة أم لا؟
إلى هنا، لم يُعد منطقيا عرض ظاهرة العنف الأسري بضخامة جسمها وأطرافها، مخاطرها وأضرارها وهي فاقدة لرأسها، لا يمكن مناقشتها من دون ملامسة الواقع على حقيقته تماما كما هو لا كما جاءت به الأدبيات النظرية، لا يمكن مناهضتها والتقليل منها من دون الإفصاح عن أرقامها وأعدادها ومسبباتها الحقيقة، فالملامسة السطحية ستؤدي إلى تسطيح في معالجة المشكلة بالأساس.
إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"العدد 1997 - السبت 23 فبراير 2008م الموافق 15 صفر 1429هـ