أعاد ملف «استقلال كوسوفو» حرارة التوتر على خطوط التماس الروسية - الأميركية في أوروبا. فموسكو التي رفضت الخطوة لاعتبارات جيوسياسية تتصل بتوازن المصالح في مجال حيوي له علاقة بالأمن القومي وتلك العلاقات التاريخية التي تربطها بالعواصم والبلدان «الاشتراكية» سابقا.
ملف كوسوفو ليس الوحيد الذي رفع من درجة حرارة التوتر العالي بين البلدين إلا أنه سيكون بمثابة نقطة طفح بها الكيل. فهناك الكثير من الملفات الساخنة التي تجمعت في السنوات الثلاث الماضية وأدّت إلى عودة ظاهرة «الحرب الباردة» التي عرفتها أوروبا خلال سنوات الهدوء القاري بعد نهاية الحرب العالمية الثانية.
«الحرب الباردة» الجديدة تختلف في شروطها ومقوّماتها عن القديمة ولكنها في قوانينها العامّة تتقاطع في الكثير من النقاط الحساسة وتحديدا في موضوع الأمن القومي وتمدد الولايات المتحدة تحت غلاف الحلف الأطلسي باتجاه أوروبا الشرقية وصولا إلى حدود روسيا السياسية.
ملف الأمن الاستراتيجي يشكّل تلك الزاوية الحادة في العلاقات الدولية المتوترة بين واشنطن وموسكو. فالأخيرة اتهمت الأولى بمحاولة اختراقها حين قررت نصب شبكة صواريخ على حدودها الغربية في أوروبا الشرقية. وجاء الاعتراض على «الدرع الصاروخي» في سياق عام حين لاحظ الكرملين أنّ الولايات المتحدة تبرمج خطة لمحاصرتها بالقواعد العسكرية من كازاخستان وأوزبكستان شرقا إلى أفغانستان والعراق وتركيا جنوبا وصولا إلى جورجيا وأوكرانيا ودول شرق أوروبا (بلغاريا ورومانيا) غربا.
الاعتراض الروسي اتخذ من «الدرع» قاعدة انطلاق لتوجيه رسائل شديدة اللهجة ضد إدارة جورج بوش وصلت إلى حد التهديد باستخدام أسلحة غير تقليدية للدفاع عن حدودها ومجالها الجوي. وألحقت روسيا اعتراضاتها اللفظية بسلسلة تدابير أكّدت استعدادها للعودة إلى سياسة سباق التسلّح وتطوير برامجها الصاروخية والفضائية لحماية أمنها القومي من الاختراق.
الأمن القومي (التوازن الاستراتيجي) شكّل ذاك المدخل السياسي للبدء في كسر المعادلة التي استقرت عليها العلاقات الدولية في مرحلة «السلم البارد» التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفياني وتفكك معسكره الاشتراكي. الأمن كان الإطار العام الذي برر الهجوم المضاد ولكنه اشتمل على جوانب أخرى تتصل بالمصالح العليا للدولة. فهناك ملفات لا تقل أهمية بدأت تعطل على روسيا إمكانات تقدّمها الاقتصادي ومنها مسألة العزل الجغرافي عن المحيط، قطع طرق المواصلات التي تسهل لها حركة المرور، وإثارة مشكلات داخلية (أقليات) تستهدف عرقلة علاقات الدولة المركزية بالأطراف.
مجموع هذه الملفات الاقتصادية تشكّل عقبات سياسية لتأخير التنمية وتهريب الاستثمارات ومنع الشركات الروسية من التوظيف في نطاق جواري يسهل عليها عمليات تصريف منتوجاتها التي تحتاج إلى أسواق للتصدير والاستيراد.
مسألة العزل الجغرافي عن المحيط تعتبر نقطة بالغة الحيوية تؤثر سلبا على الاقتصاد الروسي الذي يحتاج إلى علاقات جوار آمنة ومستقرة لدفع عجلة النمو والتطوّر. وبسبب هذه السياسة لجأت موسكو إلى تطوير علاقاتها الاقتصادية والدفاعية مع الصين بحثا عن أسواق بديلة. كذلك استحدثت علاقات خاصة مع الهند لتشكيل جبهة خلفية تضمن لها حرية حركة في سوق واعدة ونامية. كذلك أخذت تنشط اتصالاتها مع الأصدقاء القدامى في أوروبا الشرقية لإعادة تجسير تلك الروابط بناء على رؤية اقتصادية لا أيديولوجية كما كان حال الاتحاد السوفياتي سابقا.
إلى سياسة العزل الجغرافي تعرضت روسيا إلى محاولات تقطيع مواصلاتها التجارة (حركة المرور) وتحديدا مع دول الجوار (آسيا الوسطى وبحر قزوين) لمنع موسكو من تأسيس مواقع عبور للسلع والمنتوجات. وردا على هذه المحاولات لجأت موسكو إلى تحسين علاقاتها مع دول الخليج العربية ومصر والجزائر من خلال توقيع اتفاقات تشتمل على استثمارات وتوظيفات في حقول شتى. ونجح الكرملين بعد غياب قسري في تحديد إطارات معاصرة للروابط الدولية تتجاوز تلك المحاذير الأيديولوجية التي اتسمت بها المرحلة الماضية. وأدّى النجاح المعقول إلى إرباك الولايات المتحدة؛ لأنها تعتبر تلك المناطق مساحات جغرافية تقع في مجالها التقليدي ودائرة نفوذها.
الهجوم السلمي
كلّ هذه الملفات الأمنية والجغرافية والاقتصادية المعطوفة على اختلافات في وجهات نظر تتصل بالحرب على العراق وتقويض دولته ومصادرة ثروته النفطية، إلى موضوع الملف النووي الإيراني وحساسيته الإقليمية والجوارية، إلى تشجيع حركات الانفصال (الاستقلال) في مناطق تشكل خطرا على أمن الحدود... ساهمت في ترسيم حدود ساخنة لعودة «الحرب الباردة». فالملفات لا تقتصر على استقلال كوسوفو وتداعياته السياسية والأمنية في البلقان وأوروبا الشرقية، وإنما تشتمل مجموعة نقاط تشكّل عقبات في وجه صيانة الأمن القومي وحماية الاقتصاد وتوفير قنوات تضبط الاستقرار والنمو المستقل. وهذه الجوانب من الصعب تأمين الغطاء لها إذا انكشفت الحدود وتقطعت أوصال العلاقات الطبيعية مع دول الجوار وانسدت الطرقات والمواصلات ومنعت التوظيفات وهربت الاستثمارات.
الهجوم الروسي السلمي المضاد له ما يبره نظرا لتلك العزلة الجغرافية التي يُعاني منها الاقتصاد. فالدولة بحاجة إلى الانفتاح وفتح الأسواق حتى لا ترتد داخليا وتعود إلى الانكماش على نفسها واعتماد المركزية المطلقة (الاستبداد) المرتكزة على القطاع العام كما كان الأمر في العهد السوفياتي.
وبين خيار الانفتاح وخيار العزلة لجأ الرئيس فلاديمير بوتين إلى الهجوم السلمي المضاد؛ ليقطع الطريق امام احتمال العودة إلى نمط الانغلاق وتبني اقتصاد العزلة عن المحيط والعالم. والخوف من النكوص إلى الوراء والارتداد إلى الاقتصاد العام والموجّه دفعا الرئيس بوتين إلى رفض سياسة التطويق الأمني وتقطيع العلاقات والعزل الجغرافي التي اعتمدتها واشنطن من خلال إقامة القواعد العسكرية والحواجز الجمركية والدروع الصاروخية... وأخيرا إقصاء كوسوفو عن محيطها الجغرافي الحيوي.
ملف استقلال إقليم كوسوفو زاد درجة الحرارة في العلاقات الروسية - الأميركية التي دخلت الآنَ نطاق التجاذب الدولي على مناطق النفوذ في أوروبا الشرقية. وأهمية التوتر في سياق عودة «الحرب الباردة» أنه يأتي هذه المرة على خلفية الأمن والاقتصاد والمصالح الحيوية العليا وليس على قواعد أيديولوجية اتسمت بها الفترة السابقة. فالخلاف ليس على الأفكار وإنما على الحقوق وتوازن القوى واحترام حدود المصالح في نطاقها الجغرافي ومجالها الحيوي. وهذا النوع من الخلاف يعتبر في السياسة الأعنف في العلاقات الدولية؛ لأنه يمس الموقع والدور والهيبة ولا يعير ذاك الاهتمام للأفكار والنظريات.
في الشهر المقبل سيخرج الرئيس بوتين من مقره في الكرملين مرفوع الرأس حاملا لقب «أفضل رئيس» بعد انهيار الاتحاد السوفياتي المعسكر الاشتراكي. فهذا الرئيس تحمّل مسئوليته حين كانت روسيا تدب فيها الفوضى السياسية والأمنية والاقتصادية. وكانت مهددة بالمجاعة والانهيار الداخلي والتفكك الأهلي وكانت خزانتها فارغة من المال وتتعرض ثرواتها الطبيعية للنهب والسرقة وباتت مضرب مثل للفساد والسمسرة وتسلّط المافيات. هذه الروسيا أصبحت بعد ثماني سنوات من ولاية بوتين دولة محترمة تحسب لها الولايات المتحدة الحساب بعد أن تهمشت دوليا وأوروبيا وأخذت تتعامل أميركا معها بصفتها مساحة جغرافية تتآكل وتتجوف ولا مستقبل لها.
الآنَ اختلفت المعادلة. الاقتصاد الروسي شهد تقدّما. والخزينة العامّة راكمت احتياطات نقدية. والاستقرار عاد إلى البلاد. والمؤسسات استعادت عافيتها. والدولة استردت نفوذها وأخذت تنافس الولايات المتحدة وتضغط عليها في أكثر من مكان لمنعها من التفرّد والتسلّط وعدم احترام مصالح القوى الأخرى وحقها في الدفاع عن مجالها الجغرافي والحيوي.
هذه التحوّلات الروسية مقابل تراجع هيبة أميركا ومكانتها الدولية في فترة بوش ترسمان في الأفق المنظور ملامح صورة تكشف عن متغيرات لم يعد بإمكان واشنطن تجاهلها. فالدولة الأقوى تعاني من إرهاق في الاقتصاد وروسيا الضعيفة المنزوية في أقصى الشمال البارد أخذت تستعيد حيويتها وبعض سخونة افتقدتها في فترة شهدت خلالها لحظات انتقال من قوّة أيديولوجيا الأفكار إلى قوّة اقتصاد المصالح.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1997 - السبت 23 فبراير 2008م الموافق 15 صفر 1429هـ