العدد 1996 - الجمعة 22 فبراير 2008م الموافق 14 صفر 1429هـ

«الأحامدة الثلاثة»... نجاد... الشقيري... وسعيد

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

ما الذي يجمع «الأحامدة الثلاثة» محمود أحمدي نجاد، أحمد الشقيري، وأحمد سعيد؟ لا شيء سوى ثقافة الصراخ والتهديد والوعيد. فالثلاثة اشتهروا بتصريحاتهم النارية التي بالغت في إعلان حرب التدمير وحرق «إسرائيل» و «رمي اليهود في البحر» و «اجتثاث الصهيونية من الجذور».

المذيع أحمد سعيد اشتهر عربيا في تعليقه السياسي اليومي من محطة «صوت العرب». فهذا التعليق اليومي شكل مادة حيوية للمستمع من المحيط إلى الخليج. فالكل كان ينتظر صوت سعيد وكلماته النارية وتهديداته التي أشعلت مرارا قلوب المستمعين وزرعت في العقول الآمال والأحلام بانتظار تلك اللحظة التاريخية التي سيشهد فيها العالم بداية نهاية «الكيان الصهيوني».

استمر سعيد يلقي تعليقه (بيانه اليومي) سنواتٍ وتحوّل إلى واجهة إعلامية لذاك المارد العربي الذي يخطط لبدء رحلة التحرير والوحدة. كلمات سعيد كانت تعتبر قوة معنوية للجماهير العربية ولكنها شكلت مادة دسمة لتل أبيب حين استخدمتها أجهزة الضغط في عواصم الغرب لكسب الدعم المالي والتأييد الدبلوماسي وعقد صفقات التسلح بذريعة أن «إسرائيل» مهددة بالدمار والموت.

استمر سعيد يلقي بيانه اليومي إلى أن وقعت حرب يونيو/ حزيران 1967. في الأيام الثلاثة الأولى واصل مذيع «صوت العرب» نشر تعليقات الانتصار إلى درجة أن المستمع صدق أن الجيوش العربية دمرت المطارات والطائرات الإسرائيلية وسحقت المواقع الأمامية واخترقت الجبهات وباتت على بضعة كيلومترات من تل أبيب. وحين ظهرت الحقائق في الأيام الثلاثة الأخيرة ميدانيا واكتشف الجمهور العربي أن هناك صورة أخرى تعاكس كل ما يقال انهارت المعنويات وهبطت الثقة وتسمّرت العيون وتحجّرت الدموع.

بعد توقف إطلاق النار وانكشاف غبار المعركة عن احتلالات وصلت إلى قناة السويس والقدس والضفة الغربية والجولان انقلب الجمهور على سعيد ولم يعد يصدق كلمة يقولها، بل تحوّل إلى مادة للسخرية. ودفع هذا الأمر الرئيس جمال عبدالناصر إلى تحويل سعيد على التقاعد المبكر وتغيير لغة الإذاعة وتعديل لهجة خطابها الذي لا يقدم ولا يؤخر بل إنه أضر الشارع وأفاد تل أبيب أكثر من العرب.

انتهى أحمد سعيد مع نهاية حرب 1967 وقبل انعقاد القمة العربية في الخرطوم وهي الأولى التي تلت الهزيمة. الأمر نفسه حصل مع رئيس منظمة التحرير الفلسطينية أحمد الشقيري. فالشقيري اشتهر في خطاباته الرنانة الطنانة بأنه لن يكتفي بتحرير الأراضي المحتلة من فلسطين بل لن يعطي فرصة لليهود للهرب وسيعمل على «رميهم في البحر».

فكرة «رمي اليهود في البحر» أعطت «إسرائيل» تلك المادة الضرورية التي كانت تحتاج إليها لترويج مشروع الدفاع عن نفسها وحقها في الرد حتى الهجوم باعتبار أنها تشكل ذاك الكيان المحاصَر والضعيف والمهدَّد بالحرق والسحق والإبادة والطرد والنفي والرمي في البحر. وحين شنت تل أبيب عدوانها على الدول العربية الثلاث فجر الخامس من يونيو وقف العالم الغربي كله معها باعتبار أنها دولة مسكينة ومهدَّدة بالاجتثاث والاقتلاع والإبادة من قِبل جيرانها. وبعد ستة أيام من العدوان تناسى الإعلام الغربي تلك التصريحات «العنترية» والبلاغات النارية وأخذ يركز على عظمة «إسرائيل» الصغيرة و«جيشها الذي قهر أعظم جيوش العالم في أقل من أسبوع».

مقابل نظرية «الجيش الذي لا يقهر» تحولت الدول العربية إلى مسخرة ومضحكة وانعكست البطولات الوهمية وارتدت على أصحابها؛ مما دفع الشقيري إلى الاعتراف بتقصيره وخجله من تلك الشعارات البرّاقة التي أضرت العرب وحسّنت سمعة «إسرائيل» وأعطت عدوانها المدمر صك براءة من الغرب (الأوروبي والأميركي).

اضطر الشقيري لاحقا إلى الاعتذار وتقديم استقالته من رئاسة منظمة التحرير مفسحا المجال أمام الفصائل الفلسطينية (فتح تحديدا) للاندماج مع المنظمة وانتخاب ياسر عرفات رئيسا لها. ومنذ تلك اللحظات المؤلمة في التاريخ العربي لم يعد الجمهور يستمع إلى تعليقات أحمد سعيد الإذاعية أو يسمع تصريحات أحمد الشقيري الثأرية والنارية.

شكلت تلك الضربة القاسية علامة مفارقة في الحياة السياسية العربية وبدأت تظهر في الساحات لغة متواضعة أقرب إلى الهدوء والعقلانية والواقعية ولم تعد تصدر تلك التهديدات بالقتل والرمي والحرق والاجتثاث إلى أن وقعت حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973 ونجحت مصر وسورية في البدايات في تسجيل انتصارات شهدت لها ساحات المعارك والميادين. الحرب لم تأخذ الثار ولم تسترد الأراضي ولم تحقق الأهداف السياسية المرجوة ولكنها نجحت في مسألة معنوية مهمة إذ ردّت بعض الكرامة وأكدت للغرب «أن العرب ليسوا ظاهرة صوتية»، كما كان يروِّج الإعلام.

صورة العربي

بعد حرب 1973 توقفت موجة السخرية من العرب وبدأ العالم يتعامل مع الجمهور باحترام ومن دون ضحك وغمز ولمز باعتبار أن وقائع الميادين أظهرت قوة غير متوقعة وأثبت الجندي العربي بسالة وشجاعة واستعدادا للتضحية والشهادة. ونجحت الحرب في رسم صورة مخالفة جزئيا لتلك المشاهد التي روّجت لها أبواق الدعاية الرخيصة في أوروبا والولايات المتحدة.

لم تتعدل كثيرا صورة «العربي» في الشاشة إذ استمرت تلك النمطية العنصرية ترسم وجه العربي بأساليبَ فيها الكثير من الانحطاط الخُلُقي. ولكن المشهد العام دخلت عليه بعض التلاوين التي غيّرت بعض الملامح وأعطت أحيانا إشارات مضادة للسوق التي راجت فيها بضاعة تشوّه سمعة العربي وتقلل من قيمته وعقله.

استمرت الصورة النمطية على حالها تصعد وتهبط إلى أن دخل أحمدي نجاد على خط الخطاب السياسي مثيرا زوبعة من التصريحات التي أنعشت الذاكرة وأعادت فتح تلك الملفات التي أغلقت على المشهد الحزيراني (هزيمة يونيو) وفصوله وارتدادته وما أنتجه من انقلاب نفسي على تعليقات سعيد وتصريحات الشقيري.

أحمدي نجاد هدد كما فعل قبله صدام حسين حين أعلن في العام 1990 أنه بصدد حرق نصف «إسرائيل» وترك النصف الآخر يتفرج ويبكي على النصف المحترق. وأدت تصريحات أحمد نجاد إلى إطلاق حملة دولية ضد إيران في نهاية 2005 ومطلع 2006. فالإعلام الغربي تعامل معها بصدق وأخذها على محمل الجد. واستغلتها «إسرائيل» ووظفتها بالكيفية التي تخدم مصالحها بقصد إعادة إنتاج تلك الصورة التي رسمها الثنائي سعيد - الشقيري. فالكلام عن التدمير والاجتثاث شجع دول الغرب على ترتيب سياسة تظهر «إسرائيل» تلك الدولة الضعيفة المسكينة التي تحتاج إلى الرعاية والحماية من مخاطرَ تهدد وجودها.

ظلّ الإعلام الغربي يتعامل بصدق واحترام مع تهديدات أحمدي نجاد ويأخذها بجدية ويعطيها قيمة استثنائية في صدر صحفه الأولى ومحطات الإذاعة والتلفزة ونشرات الأخبار إلى أن وقع العدوان الأميركي - الإسرائيلي على لبنان في صيف 2006. آنذاك توقع الكثير من المراقبين والمتابعين أن تتدخل إيران دفاعا عن بلاد الأرز لوقف العدوان وما أنتجه من دمار للمدن والقرى والمؤسسات والبنى التحتية. التوقعات استندت إلى تلك التصريحات النارية التي أطلقها أحمدي نجاد. ولكن الوقائع الميدانية خالفت الكلام ولم تتحرك تلك الآلات والصواريخ التي هددت سابقا بالدمار والحرق والاجتثاث.

استمر العدوان نحو 34 يوما وانكشف الكلام على أرض الواقع. وبعدها بدأ يتعامل الإعلام الغربي باستخفاف ولم يعد يعطي تلك الأهمية لتصريحات أحمدي نجاد التي تهدد بالاقتلاع والدمار، حتى إن وكالات الأنباء لم تعد تكترث بنقلها أو إبرازها أو إذاعتها. بعض الصحف توقف عن نشرها نهائيا. وبعض الصحف واصل نشر مقتطفات صغيرة منها في الصفحات الداخلية. فالتجربة اللبنانية شكلت ذاك الاختبار الميداني وكانت بمثابة الامتحان الجدي لمعرفة مدى صحة التعامل مع ما يقال في الخطب النارية وتلك التصريحات التي تكرر ما سبق أن قاله قبل 40 عاما الثنائي الشقيري - سعيد.

في المقابل لاتزال صحف العالم وأجهزة إعلامه ومحطاته تتعامل باحترام مع الكلام الذي يطلقه أمين عام حزب الله السيدحسن نصرالله. فالسيد لم يهدد مرة في تصريحاته بالحرق والهدم والرمي وإنما كان ولايزال يؤكد استراتيجية الدفاع وحق المقاومة في الرد مستخدما دائما «إذا» الشرطية.

تواضع كلام السيدنصرالله لم يمنع حزب الله من المقاومة وكسر شوكة «الجيش الذي لا يقهر» حين حاول الدخول في معركة برية في الجنوب اللبناني خلال عدوان 2006. تواضع الكلام أعطى صدقية للخطب وجعل تل أبيب وواشنطن تعلنان استنفار قواتهما وأجهزتهما الأمنية بعد أن هدد بالرد على «الحرب المفتوحة». ويشكل الاختلاف في التعامل الغربي مع الخطابين نقطة مفارقة في لغة الحرب أو السلم. فمن يهدد بالهجوم فلا يؤخذ كلامه ومن يهدد بالدفاع يستنفر العالم ضده. وهذا الأمر له علاقة في النهاية بالصدقية والقدرة على تحويل الكلام إلى فعل.

في عشرينات القرن الماضي هدد وزير الدفاع السوري في حكومة فيصل الأول، يوسف العظمة فرنسا بالدمار والتحطيم إذا هي تجرأت على غزو دمشق. آنذاك صدق البرلمان السوري كلام العظمة وأصدر بيانه الشهير الذي أكد وحدة سورية وسيادتها واستقلالها. وردت فرنسا وأرسلت قواتها بقيادة الجنرال غورو وهددت الحكومة بالاستسلام. والتقى مجلس النواب مجددا وطالب العظمة بتشكيل قوات وتجهيز المدينة للمواجهة المنتظرة وكانت المفاجأة أن وزير الدفاع اعترف رسميا بأنه لم يمتلك الخطة ولا المعدات وأنه كان يقول هذا الكلام بقصد تخويف فرنسا. إلا أن العظمة كان على الأقل صادقا مع نفسه حين قاد مجموعة من المسلحين إلى جانب قوات بسيطة في تدريبها ومعداتها وخاض معركة ميسلون واستشهد دفاعا عن دمشق وشرفه.

استشهاد العظمة أعطى دفعة معنوية للمقاومة وزاد عزيمة الشعب السوري إلا أن قوات غورو الفرنسية واصلت تقدمها واحتلت دمشق وأسقطت حكومة فيصل الأول وخضعت سورية للاحتلال والانتداب إلى العام 1946.

المشهد العربي الآن أمام صورة مكرورة. والجمهور حائر وهو في حال من الضياع والخوف والرهبة من رؤية مناظرَ تعيد التذكير بتاريخ يمتد إلى عشرينات القرن الماضي أو إلى فترة لاتزال عالقة في الذاكرة الشعبية. والمصيبة الكبرى هي أن تكرر التجربة ما سبق أن حصل مع الأحمدين: الشقيري وسعيد.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1996 - الجمعة 22 فبراير 2008م الموافق 14 صفر 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً